(أ)
ما هي الغاية العامة من نقد الخطاب الديني - السياسي في ظلّ غياب خطاب وطني - عمومي تُستمدّ الشرعيّة السياسيّة منه؟ هل نستسلم أنّ الغاية واحدة عند الأطراف المعنيّة: الأنظمة السياسيّة العربيّة، العلمانيّون، مؤسّسات العموم العربي، والفرديّات الذكيّة؟ إذا اتفقنا - مبدئيّاً وجدليّاً - أنّ نجاحَ مشروع نقد الخطاب الديني - السياسي مشروطٌ بفاعلية نقد مقولاته المتداولة اجتماعيّاً وغير المحظورة تشريعيّاً، فإن هذا الاشتراط بحدّ ذاته يحمّل الأطراف المعنيّة مسؤوليّة ابتدائيّة تتمثّل في نقد الذات وتخليصها من آثار المقولات والمنقولات التي يستند إليها الخطاب الديني - السياسي: هكذا لا تكون الأنظمة العربيّة بمنأى عن هذا النقد لطالما لم تستند في شرعيّتها على خطاب وطني - عمومي، ذلك أن الدساتير العربية لا تخلو من ارتباطات عدّة بمقولات الخطاب الديني ممّا يجعلها تحت طائلة المساءلة: (هل تستند هذه الدساتير إلى خطاب وطني عمومي أم أنها متورّطة بخطاب ديني سياسي؟). ومن هنا فإن نجاح وفاعلية نقد الخطاب الديني السياسي تتأثّر بمدى حصر الغاية أو إطلاقها؛ فإن كانت مؤقّتة ومحصورة في تيّارٍ فإنّها لا تفضي إلى تحصين العموم من أثر وتأثير مقولات الخطاب حال تحقّق غايتها المؤقّتة، لطالما لم تشرّع الأنظمة ما يحصّن الدولة ويبنيها على خطاب وطني عمومي، وهو الخطاب الذي يوازن بين مكوّنات الدولة جميعة دون استنادٍ لعرق أو مذهب، ويفصل في شرعيّته بين الأجندات العرقيّة أو الدينيّة وبين الشرعية السياسيّة، بحيث تستمدّ من العقد الوطني ورضا العموم؛ أمّا إذا كانت الغاية عامّة فإنّها تحقّق المنفعة للأطراف جميعة ولا تستثني في غايتها أي طرف من النقد، بدءاً بمراجعة مواد الدساتير ومقارنتها وتنقيتها من آثار مقولات الخطاب وليس انتهاءً بتحصين الطلاب من استغلالهم دينيّاً لأغراض سياسيّة.
قد تكون الغاية السائدة اليوم من وراء النقد مؤقّتة، وهو ما يجعلك تشعر باليأس والإحباط لأنّ هامش الحريّة ليس سوى آلة لأجندة آنية، تخشى زوال الظرف المبرّر لها حتى تعود المخاطر إلى مكان عليها، وتستمرّ البيئة العامّة حاضنة ومؤهّلة لاستقطاب التطرّف. وقد تكون الغاية صراعاً بين متنافسين: خطاب موال وآخر مُعارض، ونحن هنا حريصون على عدم التورّط في هكذا صراعٍ لا يفضي إلى إصلاحٍ بقدر ما يُفضي إلى إعادة ترتيب التحالفات والامتيازات.
الغاية العامّة من وراء نقد الخطاب الديني - السياسي هو تمكين الخطاب الوطني - العمومي وإحلال الأخير بديلاً شرعيّاً لدساتير الدول العربيّة المتأثّرة بمقولات الخطاب الديني، فليس الغاية إنشاء مذهب فقهي جديد أو إعادة تأهيل الناس، إنما هو هدف مدني يتمثّل في المدنيّة السياسية العلمية؛ وكلّ هدف لا يتبنّى الغاية العامّة من نقد الخطاب الديني - السياسي فإن مآله إلى تضخيم الخطاب وزيادة تأزيمه، لأنّه يصبح جزءاً من الخطاب الديني ويبتعد عن الخطاب الوطني العمومي.
تكمن فاعلية نقد الخطاب في تحقيق الغاية العامّة من وراء نقد المقولات الجامعة بين الدين والسياسة، التي تمكّنت من نفوس الناس واحتواها الضمير الفردي فوضعته تحت امتحانٍ عسيرٍ، بين مقولات الدولة المعاصرة ومنقولاتها العمليّة والعلميّة الغربيّة وبين ما يتعارض مع مقولات الخطاب الديني المتغلغلة في التعليم والإعلام والحياة الاجتماعيّة بانتشارٍ واسعٍ، حتّى لأنّك لا تغلب أن ترى الناس في علاقاتهم الاجتماعيّة يتورّطون بالتكفير وبالتصنيف تأثّراً بمقولات الخطاب الديني وهم لا يشعرون.
(ب)
هل الأنظمة العربيّة بريئة من مقولات الخطاب الديني - السياسي على مستوى التشريعات والدساتير وما يتوافق أو يبرّر أو يتماهى مع مقولات الخطاب؟ فإن كان غياب الخطاب الوطني - العمومي واقعاً سابقا عند هواجس مرحلة التأسيس وخوف السلطات من وجوده، وهو ما جعلها تعتمد على خطاب ديني - سياسي أو ديني - قومي، فإن الواقع ومآلات غياب الخطاب الوطني أدّت إلى تورّم الخطاب الديني - السياسي داخل تلك الأنظمة والانشقاق عنها، وهو ما يضعها اليوم أمام ضرورة إنشاء الخطاب الوطني العمومي القادر على مواجهة الفئويّة؛ ولعلّ تفكيك هذا التساؤل من أولويّات البروتستانت العربيّ: (الاحتجاج على احتكار: فهم الدين وخصوصيّته الفردية، تداول السلطة، تعريف الأخلاق).
إن فاعلية نقد مقولات الخطاب الديني - السياسي بالتأثير إيجابا على الواقع تشترط الشرعيّة الواقعيّة: (قوّة الكيان السياسي ورضا الناس عن التشريع والتنفيذ)، وعليه لابدّ أن يكون النقد بلغة الناس والتداول، وأن يتحوّل هذا الموضوع إلى مادّة حواريّة على القنوات الفضائيّة واليوتيوبات؛ هل يُسمح لخطاب وطنيّ - مدنيّ أن يخرج على الناس عبر القنوات الفضائيّة واليوتيوبيّة على حلقات يُمارس فيها النقدُ (جدليّاتِ السياسة والدين والأخلاق) وصولاً إلى نقد مقولات الخطاب الديني علانيّة لدى الأطراف جميعا، وليس حصرها فقط في تيّار مغضوب عليه الآن - ومناقشة مدى انتشار هذه المقولات واستفحالها في ضمير الناس إلى أزمة فرديّة وجماعيّة، ومدى ارتباط الأنظمة والناس بها ممّا يعطّل مصالحهم ويجرح استقلالهم ويسهّل استغلالهم؟!
إنّك لا تعدم إن ناقشت مقولات: (الإخوان، القاعدة، النصرة، دولة الإسلام في العراق والشام وغيرهم..) من حركات التطرّف الدينيّة - السياسيّة أنّ تجدها مقبولة لدى الناس دون أن يدركون أنها هي المقولات نفسها التي يلجأ إليها التطرّف: من المسوؤل عن هذه التربة العربيّة القابلة دائماً للتطرّف الديني؟
كيف ترفض أكثريّات العموم العربيّ الحركات الدينيّة السياسيّة المتطرّفة بينما هي متورّطة وتقبل مقولات دينيّة هي عينها التي يستند إليها التطرّف الديني السياسي؟ هذا السؤال الفجّ عليك أن تواجه به العموم! عليك أن تصدم وعيها المبرمج/ المزدوج. (أن ترفض الحركة الفلانيّة بسبب مخاطر مقولاتها، بينما أنت تملك المقولات عينها!!!)
(ج)
تتمحور أهم مقولات الخطاب الديني- السياسي في حقل السياسة والوصاية على الإنسان، كمقولات: (الحاكميّة لله، الإسلام دين ودولة، تطبيق الشريعة الإسلاميّة، المرجعيّة السلفيّة، فساد الإنسان وتأثيمه): وهي مقولات مبتورة وانتقائيّة، من تفسيرات أو تأويلات تخصّ حالات معيّنة مكانيّة وزمانيّة، وبعضها يفتقد للثبوتيّة التاريخيّة قبل اعتماد وقوعها تاريخاً، وأخرى مختلقة تدمج الحاضر بالماضي، وتشوّه كلاهما، فكلا: (المنقول والمختلق) لا يملك سنداً وحجّةً قطعيّة من مصادرهم؛ لكنّ المسألة أنّها مقولات متغلغلة في الضمير الفردي بسبب القنوات الرسميّة التي تتحمّل مسؤولية في تنقية خطابها من هذه المقولات وما يبرّر ويسمح بوجودها، وهو ما يضع الفرد في حالة تناقض مزدوج، بين رغبته بالاستقرار والانتماء للدولة وبين ضميره المتلاعب به بافتراضات تعارض ذاك الانتماء، بيد أنّ الإنسان العربي لم تُهيّأ له الثقافة والمعلومات والمعرفة كما هو حالها اليوم في المشاع الفضائي، وتبقى في طور التشكّل: مسألة نقل نتائج بروتستانت الدين في قراءة الخطاب الديني وتفكيك مقولات دعاته المستغلّين، من الفضاء والمدوّنات والقنوات الفكريّة إلى البرلمانات والمجالس التشريعيّة وأماكن صناعة القرارات السياسيّة، لأنّ الإصلاح لا يمكن أن يتمّ دون إقناع صانع القرار بتبنّيه على مستوى صناعة القرارات المغايرة.
(د)
المعضلة العربيّة أنّ هذه العموميّات الاحتجاجيّة المتنامية (على سلطة الوصاية وسلطة استغلال قراءة الدين) والمطالبة بخطاب وطني عمومي التي تزداد يوماً بعد يومٍ في الوعي الوطني الانتمائيّ، أنّها تواجه أنظمة سياسيّة لا يعنيها تفكيك الخطاب الديني-السياسي ونقد مقولاته وتنقية خطابها الخاص منه، إلاّ في معارك مؤقّتة ضدّ فصيل أو آخر، وتفكيك ذي غايات سياسيّة مؤقّتة لا يصل إلى تفكيك مجمل المقولات. ويأتي تجنّب تفكيك الخطاب برمّته والانفصال النهائي عنه لأنّه يؤثّر على باقي الفصائل التي مازالت ترتبط بهدنة أو حليفة للأنظمة؛ كما تخشى هذه الأنظمة إلغاء هذا الخطاب برمّته ونقد مقولاته لأنّها لم تتخلّص منه بعد في ظلّ غياب خطاب وطني مكين، علماً بأنّ نقد مقولاته نقدٌ لما تستند إليه الأنظمة نفسها، لطالما وضعت شرعيّتها السياسيّة في الخطاب الديني وشيءٍ من مقولاته: (رجال الدين بوصفهم على الظنّ يمثّلون الشريعة مصدر السلطة والنظام، هكذا يكون أساس الخطاب الديني-السياسي: أن رجال الدين هم مصدر السلطات إلى جانب القوّة)، ولا تستند هذه الأنظمة كلّياً على الخطاب الوطني العموميّ، الذي على رأس مقولات خطابه: (العمومُ/المواطنون هم مصدرُ السلطات إلى جانب القوّة).
شرعية النظام السياسي (تستمد من القّوة ورضا العموم)، وهذه الشرعيّة المغيّبة هي الضامنة لوقف استغلال الديني-السياسي لأجل إضفاء الشرعيّة السياسي، فإذا ما التزمت الأنظمة السياسيّة بخطاب عمومي سقطت كبرى حجج الخطاب الديني-السياسي في ادعاءتها أنّها أولى بالشرعيّة وبالتمثيل السياسي من الساسة المدنيين.