العلاَّمة الموسوعي، والمحقق الجهبذ، والباحث الجاد، والأديب المثقف، والأكاديمي المتبحر الأستاذ الدكتور: (حمد الناصر الدخيِّل- 1364هـ/ 1973م)
في منتصف العام 1385هـ كانت بدايات تعرفي بهذا العلم الشامخ حمد الناصر الدخيل حينما قدم إلى الرياض للالتحاق بالدراسة الجامعية من محافظته (المجمعة)، بعد أن أكمل دراسته التمهيدية (الابتدائية) والمتوسطة والثانوية بمعهدها العلمي، تماما مثل قدوم كاتب هذه السطور من منطقة جازان إلى الرياض للغرض نفسه بعد أن أكملت دراستي (التمهيدية) والمتوسطة والثانوية بمعهد سامطة العلمي...
غير أن أخي وزميلي (حمد) كانت له طموحات عظيمة يسعى لتحقيقها بهمم الكبار، ربما كنا نحن زملائه آنذاك نشاركه في بعض تلك الطموحات، حتى وإن كان بعضنا لا يملك تلك الجدية التي يملكها الدكتور حمد الدخيل:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
فقد بدأ (الدخيل) مشوار الدراسة الجامعية طالبا بكلية اللغة العربية ثم معيدا بها فمحاضرا فأستاذا مشاركا فأستاذا ملأ الساحة بمؤلفاته وإنجازاته وبحوثه الرصينة.
إنه الأخ العزيز، والصديق الوفي، والزميل الذي سعدت بزمالته وبهرني سمته وكريم خلاله منذ اللحظة الأولى التي شاركته فيها الجلوس على المقعد الخشبي المخصص لنا، وذلك أنه بعد إتمام تسجيلنا بالسنة الأولى في كلية اللغة العربية قام المسئولون بترتيب الطلاب حسب الحروف الهجائية فكان من عناية الله بي أن يؤهلني الحرف الأول من اسمي للجلوس بجانبه، حيث تم وضع اسم (حجاب الحازمي) و(حمد الدخيّل) على مقعد واحد شأننا شأن سائر زملائنا في تلك القاعة وفي القاعة الثانية التي تضم بقية زملائنا وربما كان في سائر القاعات الدراسية بالكلية حيث كان كل طالبين يجلسان على مقعد واحد.
ومنذ اللحظة الأولى التي جلست فيها بجانب أخي وزميلي (حمد) لمست فيه نموذجا لطالب العلم الحقيقي الذي يتسم بالهدوء والرزانة وعلوّ الهمة والإقبال على طلب العلم بجد واجتهاد ونهم معرفي، وإذا كانت (الأرواح جنود مجندة......) فقد تمت الألفة التامة بيني وبين زميلي (حمد) خلال وقت قياسي لأنه -حفظه الله- قد غمرني براقي تعامله، وصافي وداده، وكريم طباعه فهو نموذج حقيقي لما نسميه بالطالب المثالي في أدبه، وحسن تعامله مع أساتذته وزملائه وفي هدوئه وسمته الجليل، وفي جده واجتهاده لذلك فقد حاولت برغم تقارب السن بيننا الإفادة - قدر الإمكان- من أدبه الجم، وتواضعه الكبير، ورجاحة عقله، وأحسبني نتيجة قربي منه قد أفدت بعض الإفادة من حلمه، وأناته، وإن كنت لم أحقق شيئا ذا بال من نهمه الشديد في القراءة الواعية، ولا في تنوع اهتماماته وتعددها.
كما أنني لم أستطع تقليده ولو حتى في بعض ممارساته اليومية الخاصة، ومنها:
1- التصاقه الدائم بالكتاب وشدة حرصه على الوقت.
2- عزوفه عن مغادرة قاعة الدرس طيلة اليوم الدراسي حتى في الفُسَحِ الكبيرة، فهو لا يغادر القاعة إلا نادرا، هكذا كان دأبه، وكان ذلك محل استغرابي واستغراب عدد من الزملاء.
وفي ذات يوم عدت لسبب - ما- أثناء الفسحة إلى قاعة الدرس - على غير العادة- فوجدت زميلي (الدخيّل) مكبّا على قراءة كتاب أدبي كبير لأحد أعلام الأدب العربي -آنذاك- وحين أحس بعودتي بدت عليه بعض علامات الارتباك ظنا منه أن زمن الفسحة قد انتهى، وحاول إعادة الكتاب إلى مكانه وسط كتبه الدراسية فطمأنته بأن الفسحة لم تنته بعد، وأن غالبية زملائنا الطلاب ما زالوا خارج القاعة فطب نفسا بكتابك الذي عشت وتعيش معه هذه الدقائق المفيدة، فاستأنف زميلي هدوءه ليتيح لي بأدب جم فرصة التطفل عليه وعلى كتابه للتعرف على اسم الكتاب واسم مؤلفه والدار الناشرة دون أن أقطع عليه حبل تواصل قراءته أو أثقل عليه بالأسئلة التي قد أجابني عليها واقع الحال فمحا دهشة استغرابي.
ولم تكن فوائد تلك الجدية والمثابرة من زميلي العزيز (حمد) تقتصر عليه وحده، ولكنها تفيض على من حوله علما وفضلا ونبلا، وكنت من أكثر المستفيدين من ذلك الفضل والعلم - ربما لقربي منه- وربما لقربه مني مكانة، فلقد وجدت عنده وقار الشيوخ ونبل العلماء.
أذكر أنني في السنة الثانية والثالثة كنت قد تنوعت اهتماماتي إلى حد ما، فإلى جانب مشاركاتي المتواضعة ببعض المقالات والدراسات الأدبية في عدد من الصحف المحلية فقد كانت لي بعض المشاركات في مسابقات إذاعية وتلفزيونية، وكانوا في عمادة الكلية يأخذون المشاركين في تلك المسابقات قبل نهاية اليوم الدراسي، فإذا كانت المحاضرة الأخيرة من المحاضرات المهمة فإني أترك لدى زميلي (حمد) الكتاب المقرر ليسجل عليه بعض الشروحات أو الإضافات التي يضيفها أستاذ المادة، فإذا كانت الإضافة تأخذ شكل المذكرات فمن غير أن أوصيه يتبرع زميلي، فيكتب لي نسخة مثل نسخته التي كتبها لنفسه، ثم يضعها داخل الكتاب لأجدها في اليوم التالي فيشرح لي غامضها ويذكر لي المطلوب منا في المحاضرة المقبلة، وما زلت أحتفظ ببعض الكتب المقررة التي كتب لي عليها أخي حمد بعض الشروح بخطه الجميل، ومنها كتاب (الإيضاح في تلخيص المفتاح للسكاكي).
وهكذا فقد كان الزميل العزيز جادا في دراسته ومجتهدا في تحصيله العلمي، وحريصا على الوقت.
ومع هذه الجدية والصرامة التي يلزم بها نفسه فقد كان - حفظه الله- يتحمل من هزلي المقصود بعض التحمل - كشأن زملاء الدراسة في كل زمان-، ولعلي أذكر في هذه العجالة واحدا من تلك المواقف التي جاملني في تمريرها تأكيدا للود وجريا على سنن زملاء الدراسة وإن لم يوافق على كثير من خطواتها:
ففي السنة الثالثة من التحاقنا بالكلية وصل إلى كلية اللغة العربية دفعة جديدة من الأساتذة والدكاترة المصريين وفيهم العلماء الفطاحل، وكان نصيب مجموعتنا عددا وافرا من أولئك العلماء، وفي أحد الأسابيع الدراسية من أوائل تلك السنة فوجئنا بدخول أحدهم إلى قاعتنا وكان من الأساتذة الكبار المشهورين على مستوى العالم العربي أحطنا علما بأنه سيدرس لنا مادة الأدب بدلا من أستاذنا السابق الذي تعودنا على طريقته فتسبب جهلنا به وبمكانته في تفضيل أستاذنا العربي السابق عليه برغم أنه لا يحمل درجته العلمية العالية وكنت -مع الأسف- واحدا من المجاهرين بهذا التفضيل وفي اليوم الثاني قبل أن يحين موعد محاضرته عندنا طلبت من زميلي (حمد الدخيّل) أن يغض الطرف عني لأنني سأضع رأسي على الطاولة المشتركة قبل أن يدخل الدكتور الجديد إلى قاعتنا وسأتظاهر بالنوم، فإذا طُلب منه إيقاظي فليعتذر عن ذلك فوافق أخي (حمد) على مضض، وقد حصل شيء من ذلك، فبعد أن دخل الأستاذ الدكتور إلى قاعة درسنا وشرع في الحديث عن طريقته التي سيتخذها في محاضراته لنا، بدأ في شرح الموضوع الأول، وحين التفت إلى الجهة التي أتظاهر فيها بالنوم طلب من زميلي (حمد) أن يوقظني فاعتذر إليه فأتى إليّ الدكتور بنفسه وربت على كتفي بروح الأبوة الحانية وبذوق العالم الكبير فتظاهرت بالنعاس غير أنه أمرني بالوقوف ثم دار بيني وبينه حوار أبوي طلب مني خلاله أن أعيد بعض شرحه الذي تفضل به قبل إيقاظي المزعوم فوفقني الله لذلك، حيث تمكنت من إعادة كثير مما شرحه الدكتور بأسلوب مقبول، وذلك لأنني خلال نومي التمثيلي كنت أتابع حديث الدكتور الشيق باهتمام بالغ، وحين سمع دكتورنا إعادتي لأهم الأفكار التي طرحها تهلل وجهه فشكرني، وأشار علي بالجلوس ثم استأنف محاضرته وعرضه الجميل الذي أقنعني وأقنع كثيرا من زملائي بأهمية التعاون مع هذا الدكتور القدير والاستفادة من علمه الغزير.
وهكذا فقد كان لزميلي الجاد (حمد) - برغم صرامته- تعاون - مَّا- مع زميله الذي كان يُغلِّب العاطفة على الواقع.
لقد كان أخي الأستاذ الدكتور (حمد الدخيّل) بدرا منيرا في سماء كلية اللغة العربية ضمن كواكب وبدور سطعت بها سماواتها تجمعوا فيها من سائر أنحاء المملكة العربية السعودية، حيث تزينت بكثير منهم - فيما بعد- سماوات بلادنا وبخاصة من أكمل منهم دراساته العليا فأصبحت ترى منهم مدير الجامعة، ووكيلها، وعميد الكلية، ورئيس القسم، كما أصبحت تجد منهم وكيل الوزارة الفلانية، ومدير عام الجهة الفلانية.... الخ.
وهكذا فقد ترصعت سماء بلادنا بتلك الكواكب المتوهجة التي كان بريقها يخطف الأبصار، وبخاصة بعد أن أكملوا مشاويرهم الدراسية.
وكان أخي وزميلي الأستاذ الدكتور: (حمد بن ناصر الدخيِّل) من أكثر تلك البدور صفاء ولمعانا وتوهجا يدرك ذلك كل من اقترب من هالاته وإشعاعاته الثقافية، لقد كان أخي الدكتور (حمد) أحد أفذاذ تلك الكوكبة المباركة من الزملاء الأفاضل خلال مرحلة البكالوريوس وبعد التخرج فيها حيث أصبح نموذجا راقيا للطموح والإنجاز:
- فقد عين بعد حصوله على بكالوريوس اللغة العربية في عام 1389هـ معلما بمعهد الرياض العلمي.
- وفي عام 1394هـ نال درجة الماجستير من جامعة الأزهر عن رسالته (أثر الحروب الصليبية في الشعر العربي) وبعد حصوله على هذه الدرجة العلمية انتقل من المعهد العلمي إلى الجامعة محاضرا.
- وفي عام 1402هـ نال درجة الدكتوراه من قسم الأدب في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام عن أطروحته التي كانت تحقيقا لكتاب مهم جدا هو: (الإيضاح في شرح مقامات الحريري للمطرِّزي) دراسة وتحقيق (1).
- وفي العام 1421هـ حصل على درجة (أستاذ) بعد أن قدم عددا وافرا من البحوث الرصينة المحكمة.
- أشرف الأستاذ الدكتور (حمد الدخيّل) على عدد من الرسائل الجامعية وشارك في مناقشة عدد آخر من تلك الرسائل والبحوث.
- كما شارك بأبحاث رصينة وورقات عمل كثيرة في مؤتمرات وندوات أدبية وعلمية داخل المملكة وخارجها(2).
- وإلى جانب رسالتيه العلميتين العظيمتين فقد أصدر عددا كبيرا من المؤلفات المتنوعة التي تعتبر مراجع مهمة في موضوعاتها وإن كان الدكتور
(حمد) قد صب جل اهتمامه على التحقيق حتى عده بعض الباحثين (من أعلام المحققين في المملكة العربية السعودية)(3).
- لقد تجاوز عدد مؤلفاته المطبوعة خمسة وعشرين كتابا بعضها في مجلدات ومن أهمها:
1- من أعلام الحضارة الإسلامية وطبع في الرياض عام 1414هـ.
2- في الأدب السعودي وصدر عن نادي جازان الأدبي عام 1420هـ.
3- الشوط الأول مقالات وآراء في التاريخ والفكر والأدب وصدر في عام 1421هـ.
4- يحيى بن أبي طالب الحنفي - حياته وشعره- وصدر في الرياض عام 1421هـ.
5- شعر شواعر بني حنيفة في الجاهلية والإسلام جمعا وتحقيقا ودراسة وصدر في الرياض عام 1423هـ (4).
- كما شارك في تأليف بعض الكتب المدرسية الخاصة باللغة العربية وآدابها.
- وله بحوث ودراسات علمية وأدبية محكمة نشرت في عدد من الدوريات داخل المملكة وخارجها.
- إلى آخر تلك المؤلفات والبحوث والدراسات العلمية والأدبية المتنوعة.
- كما كانت له مشاركة في إذاعتنا السعودية بعدد من الأحاديث والموضوعات المتنوعة وكانت تلك الأحاديث والموضوعات التي شارك بها ذات نسق ثقافي مميز جدا تتجلى فيها ثقافته وعمقه العظيمين.
- كما شارك في الصحافة السعودية بمقالات أدبية واجتماعية وحوارات ثقافية متنوعة.
- أما تحقيقاته فهي كثيرة وغزيرة تمثل مكتبة متنوعة العناوين والموضوعات وتأتي رسالته العلمية التي نال بها درجة الدكتوراه في مقدمة تلك الكتب المحققة المهمة.
وهكذا كان الأستاذ الدكتور (حمد بن ناصر الدخيّل) موسوعة علمية متنقلة فقد كان يشارك إلى جانب مهامه الأكاديمية في كثير من المناسبات الثقافية داخل المملكة وخارجها، وقد التقينا في مناسبات ثقافية كثيرة من مناسبات الوطن التي ندعى للمشاركة فيها، وقد كان آخرها مؤتمر الأدباء السعوديين الرابع الذي انعقد في المدينة المنورة خلال الأسبوع الأخير من عام 1434هـ، فكان لقاء حميميا كالعادة استعدنا خلاله بعض ذكريات الدراسة، وتحاورنا حول عدد من القضايا الثقافية، وتكررت لقاءاتنا الجانبية طيلة أيام المؤتمر، ولفرط ابتهاج أخي حمد بتلك اللقاءات التي كانت تتم على هامش فعاليات المؤتمر كان إذا انضم إلى جلستنا الأخوية صديق مشترك يعرفه علي قائلا (هذا أخي وزميلي حجاب الحازمي الذي كنا نجلس معا على مقعد واحد طيلة سنوات الدراسة الجامعية الأربع)، يقول ذلك بأريحية وصادق مودة حفظه الله.
وإلى جانب اهتماماته العلمية الكبيرة ومشاركاته الثقافية الكثيرة فقد تولى علمنا عددا من المناصب الأكاديمية المهمة فهو -حفظه الله- واحد من تلك المجموعة الرائعة الذين أكرمنا الله بزمالتهم ومنهم: الأستاذ الدكتور محمد بن سعد السالم مدير جامعة الإمام السابق -شفاه الله-، والأستاذ الدكتور الأديب الشاعر محمد بن سعد الدبل -رحمه الله-، والأستاذ الأديب الشاعر خالد الخنين الملحق الثقافي السابق (في سوريا)، والأستاذ الأديب الشاعر حسن بن علي أبوطالب، والأستاذ الأديب الشاعر علي بن أحمد النعمي -رحمه الله-، والأستاذ الأديب الشاعر عبدالله بن محمد المقرن، وغيرهم ممن زهت بهم كلية اللغة العربية في تلك الأيام ثم زها بهم بعد ذلك الوطن بعد أن شرقت بنا الدنيا وغربت ومضى كل منا إلى مشاويره التي كتبت له.
تحية لأخي الأستاذ الدكتور حمد بن ناصر الدخيّل ودعوات صادقة لسعادته بدوام الصحة والعافية ومزيد التوفيق.
** ** **
(1) قاموس الأدب والأدباء في المملكة العربية السعودية، ج1، ص529، ط1، دارة الملك عبدالعزيز بالرياض 1435هـ.
(2) المصدر السابق والجزء والصفحة نفسهما.
(3) المصدر نفسه ص531.
(4) المصدر والصفحات السابقة.