كان الوسط الثقافي في المملكة في الأسابيع الماضية على موعد مع معرض الكتاب، وعلى موعد مع الجديد من الإصدارات والمطبوعات، وكان من أميز الإصدارات الجديدة وأهمها في الساحة الأدبية في المملكة ـ في نظري ـ هو صدور (قاموس الأدب والأدباء في المملكة ) الصادر عن دارة الملك عبد العزيز، وهو القاموس الذي خشينا أن يتعثّر قبل أن يصدر كما حدث لبعض المشاريع المشابهة، خاصة حين تأخرت طباعته، وطالت فترة إعداده وتنسيقه، لكن التأخير كان حميدا، فظهر القاموس بأبهى حُلّة شكلية، وبأوفر مادة علمية، فتحية وشكر وتقدير لدارة الملك عبدالعزيز على تبنّيها إصدار هذا القاموس، وللجنة العلمية المشرفة على إعداده، على جهودهم المشكورة والمقدّرة في سبيل إعداده والتخطيط له وحتى طباعته، الذي سيكون مرجعا رصينا للباحثين، وقد تميز بالإخراج الجيد، وبدقّة المعلومات، والإحالة إلى مراجع عن الموضوع لمن يرغب في الاستزادة .
تجربة جديدة:
إن أكثر ما أشعرني بالسعادة والغبطة هو نجاح تجربة القاموس، كأميز (عمل جماعي مشترك)، وربما تكون تجربة الأعمال العلمية الجماعية جديدة على وسطنا العلمي والثقافي، فكثيرا ما نميل في أعمالنا وبحوثنا إلى الاستقلالية والانزواء عن الآخرين، والعمل ـ على انفراد ـ تحت غطاء من السرية والتكتّم، فتجد أقرب أصدقائك وزملائك لايكشف لك عن مشاريعه البحثية، بل ربما تتفاجأ بأنه يهديك كتابا من مؤلفاته، وهو المجاور لك في مكتبه، أو بيته، دون أن تشعر أو يُشعرك بأنه يعمل في بحث ما، بل ربما لو عرض ـ في يوم ما ـ حديث أو دردشة بينكما عن الأبحاث وهمومها في مجال التخصص لما أفصح ـ ولو قيد أنملة ـ عن مشروع من أبحاثه.
وكم كنتُ ـ ولاأزال ـ حريصا على أن أبثّ بين زملائي وطلابي روح التعاون فيما بين المجموعة الواحدة، بحيث نكشف مشاريعنا وأوراقنا البحثية لبعضنا البعض خاصة العاملين في الحقل الواحد، لأن ذلك سيساعدني ويساعدهم على عدم تكرار الجهود، وتشابه الأعمال، ولكي أكون لزميلي عيناً إضافية على كل جديد أراه أو أعثر عليه في جولاتي ورحلاتي، مما يخدم زميلي في بحثه ومشروعه الذي يعمل على إنجازه، ويكون زميلي ـ في الوقت نفسه ـ عيناً لي على ما يقع تحت نظره مما يخدم مشروعي وأعمالي ..
وكم عرضتُ على زميل أو مجموعة فكرة القيام بعمل مشترك فألمس منهم التردد أو التهرب من مثل هذه المشاريع، ربما لأننا كمجتمع عربي لم نعتد على مثل هذه الروح الجماعية والتعاون، والعمل تحت فريق واحد، ظناً من البعض بأن ذلك يمسّ شخصيته العلمية حين يشترك معه آخرون ليسوا في مستواه العلمي أو الوظيفي كطلاب أو مساعدي باحث، أو خشية من الاختلافات بين أفراد الفريق لعدم وجود نظام متفق عليه، أو أن أعماله وجهوده ستُجيّر وتُنسب لغيره من أفراد أو مؤسسات، ولكن تجربة القاموس أعطت كل عامل ومشارك حقّه الأدبي الكامل، فوضعت اسم معدّ المادة أو المدخل تحت المحتوى بخط بارز وواضح، كما كانت لجنة القاموس واضحة، وكاشفة لكافة أوراقها منذ البداية في المشروع، من خلال لقاءاتها التعريفية بالقاموس ورحلاتها المكوكية في سبيل ذلك إلى أكثر من منطقة، في أثناء الإعداد للقاموس، كما كانت اشتراطاتها ومقاييسها واضحة، لمن سيشملهم القاموس من أدباء أو مؤسسات .
تجربة شخصية:
جاءني خطابٌ من اللجنة العلمية بالتكليف بالكتابة عن خمسة أدباء، مع تحديد الشروط المطلوبة المتفق عليها لدى اللجنة، ثم بعد أن نظرتُ في الأسماء رغبتُ من الدكتور محمد الربيّع أن يكلّفني بالكتابة عن غيرهم لأن أكثرهم لاتتوافر لديّ معلومات عنهم، ولن أجد مراجع تتحدث عنهم، وكأنه استنكر مني هذا الطلب خاصة وأن الأدباء المعنيّين لازالوا أحياء، فطلب مني أن أتواصل معهم شخصياً وأطلب منهم ماأحتاج من معلومات عنهم، وبالفعل بدأت رحلة التواصل معهم شخصيا، وفي الحقيقة فقد كانوا متعاونين جدا معي مما سهّل مهمتي، ومنحني الكتابة لأول مرة عنهم بالتفصيل المذكور في القاموس، وكان رفض الدكتور الربيّع درساً وتنبيهاً لي، شكرته عليه فيما بعد، فالباحث لابد له من المتابعة والمثابرة والسعي وراء المعلومة، وليس الباحث هو مَنْ ينتظر أن تأتي المعلومات إليه ، كما أشعرني هذا الموقف بالجديّة والانضباط لدى اللجنة، وكأني به يقول إن غيرك كثيرون ممن يرغبون العمل في القاموس، وإن الأعمال الجماعية تحتاج التضحية، وأخذت بنصيحته، ثم تشرفتُ فيما بعد بالمشاركة في إعداده .
وفي الحقيقة أنها كانت تجربة جديدة لي، فلم تأخذ الكتابة مني وقتا طويلا، كما كنتُ سابقا حين أكون أنا المسؤول الأوحد عن بحثي وعملي، فالعمل الجماعي هو جهد محدود = نتيجة غير محدودة، أي جهد قليل يُنتج عملا جليلا، ثم تركتْ اللجنة لي ولغيري من المشاركين الكتابة دون اشتراطات معينة، ليكون القاموس ملتقى مفتوحا لأكثر من اتجاه، ولأكثر من مدرسة أسلوبية مختلفة، وجعل القاموس مقالات أدبية حيّة أكثر من كونها مواد آلية متشابهة، وحين فرغتُ من الكتابة والتدقيق بادرتُ بإرسال المادة المطلوبة إلى اللجنة، وكنتُ متوقعا أن يكون للجنة المراجعة يدٌ في التصرف بالمادة، بالتعديل أو الحذف والاختصار، ولكنني وجدتُ ـ بعد صدور القاموس ـ أن المادة لم يطرأ عليها أي تعديل، وهو إشعارٌ للكاتب المشارك بتحمّل مسؤوليات كتابته، لئلا يكون المشاركون مجرد أفراد آليين يكتبون ماتمليه عليهم اللجنة ثم يُلقون بماكتبوا إليهم دون مسؤولية، بل جعلتْ منهم مشاركين ومسؤولين فاعلين، ضمن فريق العمل، فمن أجاد فله إجادته، ومن تهاون وقصّر فسيظهر للناس تهاونه وتقصيره، فلجنة القاموس حين أسندت الكتابة إلى متخصصين فإنها كانت تهدف إلى جعل القاموس عملا وأثراً أدبيا، أكثر من كونه مجرد سير ذاتية للشخصيات كالتي تقدّم للتوظيف، وهو عمل يمكن أن يقوم به أدنى كاتب .
لقد أتاح القاموس لي شخصيا ولعدد كبير من المهتمين أن يشارك فيه، والكل يساند ويضع فيه بصمته ثم يتحمل الجميع النتيجة، وهذه من مميزات الأعمال العلمية الجماعية، فالإنسان بمفرده ـ مهما كان جادا وجلدا ومتمرسا ـ فإن لطاقته حدودا، ولعمره أجلاً، فالأعمال الجماعية (مدرسة علمية وتربوية) يلتقي فيها الأساتذة والطلاب ومساعدي الباحثين وطلاب الدراسات العليا على مائدة واحدة، فيتعلّم الصغير من الكبير، والأدنى من الأعلى،وهو اتجاه تشجع الجامعات والمؤسسات الثقافية في لوائحها وأنظمتها على تفعيله في البحوث المدعومة،وتدفع للباحث وللعاملين معه المكافآت اللازمة، ليتدرّب المتدرب ـ عمليا وبشكل مباشر ـ على يد أساتذته الأكثر خبرة.
وأخيرا .. أرجو أن يكون القاموس تجربة جديدة، وفاتحة لأعمال جماعية مشابهة، في أكثر من مجال، وأكرر الشكر والتقدير لدارة الملك عبدالعزيز وللجنة القاموس، وإننا بانتظار أعمال علمية مشابهة نخدم بها تاريخنا وأدبنا وأعلامنا.