د. موسى رحوم عباس
110 صفحات من القطع المتوسط
الأفول: غياب، هكذا أحسب.. وفي الحياة لا شيء يبقى.. المال يأفل.. والجاه يأفل.. والجسد يأفل.. لا شيء يبقى غير الذكر الحسن.. أو الذكرى السيئة.. ترى: ماذا كان يعني شاعرنا بالآفلين لديه.. لننتظر..
بداية جاءت البداية إلى صديق «أوباما» قائلا له:-
يا سيدي لست علاء الدين. صدقني
وليس لي مصباحه العجيب.
انظر إليَّ جيدا
لا ألبس العمامة الخضراء
وليس عندي ليلة واحدة من ألف ليلة وليلة
هكذا عرَّف شاعرنا نفسه.. ماذا يريد.؟!
كنت عاشقا للفن والحياة
لي مثل عينيك. ولي أطفال
يمارسون الرسم والرياضة
ويزرعون الورد في الحقول
لا أعتلي بساطه السحري
وليس لي عبد يقول «لبيك سيدي يا سيدي»
أنه يدخل إلى عش العنكبوت.. وإلى نفقه المظلم صارخا ومصارحا:-
في شرقنا كانت عجائب
شهرزاد، وما أدراك ما شهر زاد. الموت البطيء للكرامة والحشمة.. ولأن شهرزاد لا تروق له طالبها بالسكوت عن كلامها المباح وغير المباح أيضا. ووجه خطابه العاتب لسيد البيت الأبيض
فلماذا تخطفون النار من عيوننا؟!
وتحرقون الأرض تحت أقدام الصغار الذاهبين للمدارس؟!
وطائراتكم تئن في سمائنا
لتسرق النوم من العيون يا سيدي؟!
أسئلة وأسئلة أخرى كثيرة ومثيرة لا يتسع المجال لسردها.. كلها شكوى من ضربات البلوى لا يلقى لها جوابا.. لأنها مجرد خطاب شعري أمام خطب تتداعى أمامه كل التوسلات..
من رسالته «شهرزاد» إلى التاريخ «حيث يَعْرف.. وحيث يُعَرِّف. ويعزف على أوتار شجنه.
وعرفت الوجد في الخضرة. والوجد غشائي
آه.. كم كانت عذاباتي عظيمة..
أشرقت روحي بها. وحملت الطهر تاجها من محال
لم أكن أحلم في شيء. وكانت كل أحلامي ضياء
إذا أنت يا شاعرنا تحلم.. وتحلم.. وتحلم.. تحلم بالضياء. وبالعصافير.. وباليقظة في ظل الخيمة
ألم يشرب حلمك دموع الشوق وأنت في مواجهة الشمس تعرفنا بها
قد عرفت أن للشمس طقوسا. ولها شكل الرغيف
يومها قد خرج التاريخ من جلبته
حاملا ألف وسام فتحت
للقادة الأبطال في عالمنا المسحوق حتى العظم
لهذه الأسباب يا شاعرنا رحوم تبدأ الأوطان رصد تاريخها في أول نكسة
ادع هارون الرشيد لاجئا بعد أن ضاق به المكان بما رحب على أمل عودة قد لا تأتي. أو تأتي. وانتزع من ديوان شاعرنا بعض أشيائه الصغيرة
يخيفني المساء دائما. يخيفني المساء مع اقتراب خيله
تغرورق العينان بالدموع
وترحل الساعات في أجندة الدوار
ما دامت الأشياء تختلط في ذاكرتك أرمها كي تربحها بعد لحظة استغراق وتأمل.. سترى الوجوه دون أقنعة.. ستفرز الخطوط والألوان.. وسترى التاريخ كئيا مهزوما وهو يدخل في عباءة الموت.. لأننا نحن ذلك التاريخ المنكسر..
أتجاوز مقطوعة اعتذاره باعتذار من عندي.. فأمامي قمة شاهقة تبحث عن متسلق لا يتهيب صعود الجبال.
انه النسر.. انه الباز الذي يحوم في الأعلى في سباق مع الغيوم وجناحاه مشرعة أشبه بشراع في سفن العمر الواعد على حد قول شاعرنا.. أنه بتحديد رمز حل لا يتراجع.. وشمعة لا تنطفئ.
اعرف أن الصقر يعاف السطح
وعين الباز سهام من ألق
وضياء يرسم خارطة الوطن بأعلى قمة
ومن القمة التي نتوق إليها تاركين للمتسلقين التربع على ذروتها دون منافسة إلى «هجير».. لا أدري هل هو الهجر.. أم الاسم لمتمردة تلسع ببرودة طباعها وجه عاشقها.. يبدو أن هجير شاعرنا يبدأ بالخشية ولكن ممن؟!
أخشى أن أكون حمولة زائدة
في عينه الفلك التي تمخر اليم إلى أوطانها عائدة
خشيته بدت جلية واضحة لهذا السبب
إذا ما تغير النوء اكفهرت رياح الجنوب
رمتني السفن إلى القاع لأني قد أكون حمولة زائدة
لذلك تراني أخب في مهمه قفر
وحولي ذئاب حداء النيوب تراقص
على ضفاف جروحي لأني
لم أعد عندها سوى جثة هامدة
دع السفين مادمت غير قادر على مواجهة الموج.. وعلى أن تكون رقما في خانة الهجرة لا يمكن إسقاطه من الحساب ومن الهجير أو الهجر وما يكابده من هجر روحاً أو جسداً تأخذنا النقلة السعيدة هذه المرة إلى الحب:
قالت أحبك..
قلت: دعيني ألملم جذاذات وجهي
وأجمع أشلاء روحي لديك
أعيد خارطة العمر إلى سابق عهدي
لعل الفرات يعود إليَّ جواداً جموحاً من الوجد
تعالي إلى بروقا ورعداً. وحباً وصوتاً.
إلى أن يقول:
فما عاد في القلب إلا التفجع
لذلك أرحل دون عويل
فخيلي تحمحم دون صهيل
غدا القلب مملكة ليس فيها رعايا
الحب هنا أكبر وأكثر من حب حواء.. حب وطن جريح ما زال ينزف قيحاً ودما.. إنه العراق الذي يحبه شاعرنا ويلملم من أجلها جذاذات وجهه..ويجمع في سبيلها اشلاء روحه لأنه يعشقها.. ويموت فيها حباً.
أتجاوز قبلة وداعه الساخنة حتى لا تكوي بسخونتها أناملي لحرارتها.. وأدع البرق والشعر وقرائح عشاق الهوى فنحن في عصر عولمة لا مكان فيها للقريض.
تسألني صغيرتي عن (عولمة)
قلت إن هذا العالم الكبير كالعمارة
وكل شعب قد بني شقته فيها كما يريد
لكننا جيران نزور بعضنا. ونأكل الطعام
ونشتم الطوابق العلوية في الصباح والمساء
ونرفع الأصوات للإزعاج. ولا نراعي جارنا المكلوم.
العولمة يا صديقي أكبر من هذا. وأكثر من هذا.. إنه عملية استحواذ، سيطرة يمليها الأقوياء على الضعفاء. الأثرياء على الفقراء بشروط غير عادلة ولا عاقلة.. تميز بين الطوابق العلوية والبدروم.
وأخيراً مع ما يشبه الختام لهذا الديوان الجميل.. والشعر الأجمل.. يقول شاعرنا د. موسى رحوم عباس:
خمسون عاماً وأنا متدثر بالصمت
لم أستطع أن أصمت أكثر من خمسين
آن لي أن أهزم هذا الموت بالغناء
وأعلن الولادة الجديدة على مساحة بيضاء
كالطفل كلما ازداد الظلام حوله
يفتعل الضجيج كي يأنس بالمكان
وكيما حوله تتنزل السكينة
أيها الموت ابتعد.
ثمة برق لم يزل في قمة السماء.
لا يأس مع الحياة.. ولا حياة مع اليأس.. يبدو أن شاعرنا اختار الفال.. والأمل بعد أن كبر به إدراك العقل وأعلن ولادة عمره من جديد.. حسناً فعل.