«حين يصبحُ القتلُ أثراً جانبياً» أحمد مراد
إذا ذُكرت الروايةُ البوليسيةُ فإن أول ما يتبادرُ إلى الذهنِ المحققُ الشهيرُ شيرلوك هولمز بغليونِه، الذي اشتُهر أكثر حتى من مبتكرِه الكاتب سير آرثر كونان دويل في رواياته وقصصه التي ظهرت في القرن التاسعِ عشر، إضافة إلى نظيرِه هيركيول بوارو المحقق الذي كان قادرًا على حلّ ألغازِ الجرائم في روايات أجاثا كريستي الشهيرة، وعلى الرغم من وجودِ أسماءٍ أخرى إلا أن هذين الاسمين يتصدّران القائمةَ، ما يجعلُ مؤسسَ هذا النوعِ من الأدب - إنْ صحّ التعبير- وهو إدجار آلان بو الشاعرُ الأمريكي مجهولًا لدى الكثيرين.
في المشهدِ الروائيّ العربيِّ مؤخّرًا يبدو أحمد مراد متصدّرًا للرواية البوليسيةِ برواياته الثلاث «فيرتيجو، وتراب الماس، والفيل الأزرقِ» التي تقومُ بشكلٍ أساسيٍ على الجريمةِ، وإن كان بعضُ الروائيين قد كتبوا عن الجريمةِ إلا أنـّها لم تكنِ المحور بل يردُ ذكرُها كأرضيّةٍ في الروايةِ، وهذا ما يجعل أحمد مراد مختلفًا فهو الوحيدُ - تقريبًا- الذي تركّزُ كل أعمالـِه الصادرة حتى الآن على الجريمة والقتل منها تحديدًا، كما أنّ ما يكتبه يختلف عن الروايةِ البوليسيةِ بمفهومِها الغربي، فهي تقوم أساسًا على جريمةٍ يُجهَل مرتكبُها وتحيّرُ رجالَ الشرطةِ؛ الأمر الذي يجعلهم يستعينون بمحققٍ مثل هولمز أو بوارو، في حين أنَ القاتلَ معروفٌ في روايات مراد منذ البداية كما في روايتيه فيرتيجو وتراب الماس.
يظهر القتلُ في رواية» تراب الماس» مثلًا إلى جانبِ القتلِ المضاد، وهو ما قد نطلقُه على ردة فعل البطل الرئيس، الذي يحاول القصاص من قاتلِ والدِه بعدَ أن قامت الجهات الأمنيةُ بتسجيل القضيةِ ضدّ مجهولٍ وحفظها، وهو هنا يمارسُ ما سبق لوالدِه أن قامَ به ليتخلّصَ ممّن يرى أنهم يعيثون في الأرضِ فسادًا، وقد بدأ بذلك صغيرًا فكان أول من قتله بتراب الماس معلمـَه اليهودي الذي اكتشف أنه يشير إلى الطائرات الإسرائيلية بإشاراتٍ معينةٍ لئلا تقصف المباني التي يقطنها اليهود، وقد رأى في ذلك خيانةً للوطنِ (مصر) ولأصحابه وجيرانه! ولعلّه هنا يذكّر بذلك» الصوفي المتحمّقِ» في زمن المهدي الذي كان يخرج إلى الناس ِ في ظاهرةٍ مسرحيةٍ ويتقمّص شخصيةَ الحاكم الأعلى ويشرّح أفعال الولاة ومن ثم يصدر قراراته التي تدخلهم الجنةَ أو النارَ، وإن كان ذاك الصوفيّ قد اكتفى بالتمثيل كنوعٍ من التنفيس إلا أنه لم يمتلك سطوة البطل وأبيه القاتلة!
لا يختلف الموضوع كثيرًا في رواية «فيرتيجو» فهي تبدأ بجريمة قتلٍ يموتُ فيها صديقُ البطلِ فقط لأنه وُجـِد في المكان والزمان غير المناسبين، ويحاول البطل كشف الجريمةِ عبر الصحافة بإرسال الصور لأن الجهات الأمنية قامت بإغلاق القضية واعتبرتها نزاعًا بين رجلي أعمال انتهى بقتل أحدهما للآخر، لذا فهو يتخذ مسارًا مختلفًا عن نظيره في تراب الماس، واكتفى بكشف ملابسات القضية بالتعاون مع صحفي شاب، وهو ما أسهم في كشفِ كثيرٍ من رموز الفسادِ الأمر الذي رأى فيه البطل انتقامًا لصديقِه الفنان المقتول غدرًا! وهذا ما أشار إليه الكاتبُ في أحد لقاءاتـِه الصحفية قائلًا: «أكتبُ عن مجتمعٍ يحتوي على عناصرَ مختلفةٍ ومتنوعةٍ، منها عنصرُ الجريمة، وفي هذا المجتمعِ شخصياتٌ تتفاعل مع الجريمةِ، وعن طريق ذلك يتحرّك الحدثُ في الروايةِ، لكنني أعرفُ القاتلَ بدايةً من المشهدِ الثاني، ولا أضع ألغازًا أمامَ القارئ».
ومع أنّ القتلَ والجريمةَ حاضران في روايةِ مراد الثالثة «الفيل الأزرق» - المرشحةِ لجائزة الرواية العربية البوكر لعام 2014 - لكنّ الموضوعَ هذه المرة لا يتعلّق بكشف الفسادِ وفيما يبدو اكتفى الكاتبُ بما يحدث على وجِه الأرضِ، فاختار أن يدخلَ العالمَ السفلي من خلال وشمٍ يستحضر قاتلًا يتلبّس أحدَ زملاءِ البطل - والبطل لاحقًا - فيقتل زوجته، كما أنّ حبّةَ المخدّر تنقله إلى الماضي مثل آلةِ الزمن ليكتشف أصلَ الوشم والحكايةِ، ويتمكّن من خلالها من حلِّ أحجيةِ الجريمةِ.
قد يفتتحُ أحمد مراد نوعًا جديدًا من الكتابةِ لم يـُعرف في الثقافةِ العربيةِ - بعد - كما أنه لا يشبه « الأدب البوليسي» بشكله المعروف في الغرب، فهل سيلتفت النقد إليه قريبًا؟!