يقول المترجم الرائع علي مصباح “كثيرا ما يتحول المترجم إلى قاتل”،
أضيف له: أو صائغ.. فالمنفلوطي أبدع الصياغة!
“سواء لديّ أقرأتِ كتابي هذا أم مزّقتهِ فهو خلو من كل شيء يهمك العلم به أو النظر إليه. كل ما يمكنني أن أطرفك به من الأخبار أن أقول لك إن أشجار الربيع قد بدأت تبتسم عن أزهارها وأن النسيم العليل يحمل إليّ في غرفتي في هذه الساعة التي أكتب إليك فيها شذى أول زهرة من زهرات البنفسج وأول عود من أعواد الزنبق”.
هذه هي روح المنفلوطي التي سيلاحظها القارئ بدون أدنى مجهود عند قراءته لهذا العمل الذي قام بترجمته المنفلوطي عن الفرنسية للكاتب “ألفونسو كار” بتصرّف في الترجمة، أي أنّ العمل لم ينقل حرفياً عن الكاتب إنما أخذه المنفلوطي وأضاف له سحر وجزالة عباراته ومصّره تمصيرا، وأعطى نفسه حرية الاسترسال الإنشائي في العمل وكأنه يعيد صياغته ليجعله من أروع الأعمال الروائية الرومانسية.
من حيث إخراج العبارة, تعتبر الرواية من أدب الرسائل أيضا وهذا ما أضاف لها سحرا وحميمية كونها رواية عاطفية، وعلى الرغم من أنها قصة حب نمطية مملة إلا أن الميزة الكبرى التي صنعت متعة العمل هي لغة المنفلوطي البديعة، تلك الجزالة في الألفاظ، والإحكام في التعبيرات، والتمكّن من الخيال والوصف.
الرواية ذات فكرة بسيطة وهي قصّة حب عذرية بين (استيفن) و(مجدولين).
استأجر استيفن غرفة كانت فارغة في الطابق العلوي في منزل والد مجدولين، وبعد فترة يكتشف والد مجدولين هذا الحب فيخبر استيفن بأن عليه أن يغادر الغرفة، وهنا تبدأ معاناة الطرفين، يأخذ كل من مجدولين واستفن عهدا على الآخر بأن يكافحا لأجل حبهما وأن يبذلا المستحيل لكي يكونا معا، ينتقل استيفن إلى مدينة أخرى وسرعان ما يلمع نجمه بالموسيقى والعزف، أما مجدولين فتتعرف على شاب كان أحد أصدقاء استيفن الأعزاء، ولا تزال تتقرب منه محبة باستيفن حتى يقع في هواها وهنا تبدأ الضغوط من صديقتها ووالدها للزواج منه كونه ابن عائلة غنية وعريقة.
في هذه الأثناء يعود استيفن إلى حبيبته ليخبرها بأنه استطاع أخيراً أن يبني لها البيت ذا الغرفة الزرقاء التي لطالما حلما بها ولكنه يجدها على أعتاب الزواج من أحد أعز أصدقائه الذي كان قد قاسمه في يوم من الأيام قطعة الخبز، يصعق استيفن لهول الخبر ويهيم على وجهه حتى تثقل كاهله الآلام والأمراض فيغدو طريح الفراش.
الرواية تصّور عالمين اجتماعيين عالم الريف والطبيعة “ماجدولين” وحياة الثراء والأرستقراطية “ستيفن” وكيف أن السعادة لا تكمن في المال، حقيقة إن الأرواح المادية تجذب بعضها البعض والأرواح ذات النظرة الروحية المتعلقة بالطبيعة تنجذب إلى بعضها وهذا تجسد في علاقة الزواج الفاشل بين ماجدولين وإدوار.
يقول شوقي ضيف “إن المنفلوطي لم يكن يعرف لغة أجنبية، ولكنه يطلب من أصدقائه أن يترجموا له بعض الآثار التي يريدها، خاصة تلك الآثار المشبعة بروح الفضيلة والعدالة والانتصار للفقراء ونقد الأغنياء في أسلوب مليء بالانفعال العاطفي”.
قال عنه طه حسين: إنه كان يترقب اليوم الذي تُنشر فيه مقالات المنفلوطي الأسبوعية في جريدة “المؤيد” ليحجز نسختهُ منها.
ومنذ طفولة المنفلوطي درس وحفظ القرآن الكريم ويظهر ذلك جلي في أسلوبه الجميل الرصين وأخلاقه الرفيعة وإنسانيته وحرصه على المساكين والبؤساء والعمل لمصلحة بلده وغيرته عليها..
من أجمل عباراته من كتاب العبرات (الأشقياء في الدنيا كثير وليس في استطاعة بائس مثلي أن يمحو شيئاً من بؤسهم، وشقائهم، فلا أقل من أن أسكب بين أيديهم هذه العبرات، علهم في بكائي عليهم تعزية وسلوى).