تدور معاني الصورة في كتب اللغة حول معاني التخيل والشكل والهيئة والخِلقة، وقد ورد هذا في بعض المعاجم مثل مقاييس اللغة والقاموس المحيط. أما في القرآن فقد جاءت الصورة بمعاني الشكل والهيئة والخِلقة ولم تأت بمعنى التخيل، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف/11]، و{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمُْ} [غافر/ 64]، و{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} [الانفطار/8]، {وَيُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ} [آل عمران/6]، وجاء مثل هذا المعنى في الحديث الشريف في قوله عليه السلام: (إن الله خلق آدم على صورته).
والمعنى الذي ستتحدث عنه هذه السطور قريب من هذين المعنيين اللغوي والقرآني، لكنه سيحاول تحديداً النظر في قراءة الصور في ضوء النقد الثقافي. إن الصورة التي يدرسها النقد الثقافي غالباً ما تتصف بخواص ثلاث مهمة، أولاها كونها نتاجاً إنسانياً، وثانيتها اتصافها بصفة التمثيل أو الانعكاس، بحيث تكون الصورة تمثيلاً أو انعكاساً لشيء معنوي أو مجرد. وثالثتها كونها صورة بصرية تُدرك بحاسة البصر. يدخل في ذلك الصورة الساكنة والمتحركة، ذات البعد الواحد كالصورة الفوتوغرافية أو ثلاثية الأبعاد كالتماثيل والمجسمات.
تأثير الصورة في حياة الإنسان:
إن ثمة إجماعاً على قدرة الصورة الهائلة على التوصيل والتأثير، حتى قيل بأن (الصورة تعادل ألف كلمة)، ولذلك تحضر الصورة بشكل كبير في حياتنا بما يمكن معه تسمية عصرنا الحاضر (عصر اجتياح الصورة)، فالصورة موجودة في التلفزيون والجريدة والمجلة وإعلانات الشوارع وأجهزة الكمبيوتر وألعاب الأطفال (التقليدية والإلكترونية) والأجهزة الرقمية والهواتف الجوالة ومواقع الانترنت... الخ.
إن أبرز ما تتميز به الصورة البصرية هو قدرتها على كسر الحواجز واجتياز الحدود، فهي عالمية اللغة، ذات طبيعة شمولية في التأثير، حيث يفهمها الصغير والكبير والأمي والمتعلم.. إلخ. وليس سراً أن الإنسان يتعلم الكلام والمشي والقراءة بعد فترة من ولادته، ولكنه يولد مبصرا، ولهذا تذهب بعض الدراسات إلى أن 90 % من المعرفة الإنسانية تتحقق عن طريق البصر، و10% لباقي المصادر.
وتأثر الإنسان بالصورة قديم قدم الإنسان نفسه، حيث يظهر ارتباط الصورة بالممارسات التعبدية الوثنية، فقد قص القرآن الكريم علينا شيئاً من ذلك، كما في قصة إبراهيم عليه السلام الذي كسر الأصنام وعلق الفأس فوق كبيرهم {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ}، وموسى عليه السلام الذي عاقب السامري بعدما صنع لليهود عجلا وطلب منهم عبادته {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}، وكفار قريش الذين كانوا يعبدون الأصنام {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}، إن هذه الشواهد تدل على ارتباط الصورة بالديني والمقدس لشدة تأثيرها في النفس الإنسانية. ولهذا يحرص العظماء والزعماء على تجسيد صورهم وتعليقها ووضع التماثيل والمجسمات لشخوصهم.
وفي عصرنا الحديث ساهمت وسائل التواصل الحديثة والأجهزة الرقمية والتقنية الحديثة في نشر الصورة وتسويقها وترويج الأفكار من خلالها، فهذه الوسائل والأجهزة الحديثة قلبت المعادلة فأصبح الشعبي لا النخبوي صانعاً مهما للثقافة الجماهيرية، فبعد أن كانت الصورة والكلمة في السابق صناعة نخبوية أو مؤسساتية أصبحت منتجاً شعبياً، هذا الاجتياح الهائل للصورة جعل دراسة الصورة جزءا من فروع النقد الثقافي أو الدراسات الثقافية، وذلك تحت اسم (الثقافة البصرية)، وهو مجال يدرس ارتباط الصور بالثقافة والتراث، وتأثيرها في حياة الجماهير.
الصورة والمعنى:
عندما نتساءل عن المعنى الذي تقدمه الصورة إلى الجمهور والمتلقين، فإنه يمكن القول باختصار شديد بأن الصورة قد تحمل معنيين: المعنى الظاهر أو المباشر، والمعنى الثقافي. فأما المعنى المباشر فهو الذي يفهمه الجميع، وأما المعنى الثقافي الذي فقد يتم إما من خلال (تمثيلات) Representation أو (ارتباطات) Articulation، التمثيلات تكون من خلال تصوير قيم الثقافة السائدة وانعكاسها من خلال الصورة، أما الارتباطات فتكون بمحاولة زرع ثقافات وأفكار جديدة، أو بشكل آخر يمكن القول بأن الصورة تتضمن إما انعكاساً ثقافياً (انعكاس ثقافة ظروف إنتاجها)، أو تسويقاً ثقافياً (زرع مفاهيم جديدة). وتبدو خطورة الانعكاس الثقافي من أن تكرار صور ثقافية معينة في وسط ثقافي مختلف يؤدي إلى تسريب هذه الانعكاسات الثقافية إلى الوسط الجديد، وذلك عبر الاعتقاد بكونها جزءا أساسيا من حياة الإنسان، كما في ترسيخ بعض الأعمال التمثيلية الأجنبية فكرة ضرورة وجود العلاقة بين الجنسين قبل الزواج بوصفها شرطاً أساسياً لإنجاح الزواج، وتشرب بعض الفتيات العربيات لمثل هذه الفكرة.
وغالباً ما تكون التمثيلات (الانعكاس الثقافي) امتثالاً لاواعياً لسلطة الثقافة والتراث والوعي الاجتماعي، فقد نشاهد في أحد التلفزيونات الأجنبية امرأة تعلن عن شفرة حلاقة، إن المعنى الثقافي المباشر يتمثل في تجسيد الإعلان لثقافة ظروف إنتاجه إن في طريقة اللباس أو المسكن أو العلاقات الاجتماعية أو القيم السائدة... إلخ، كما أنه بالنظر إلى المعنى الثقافي المضمر أو (ما يسميه النقد الثقافي بالمضمر الثقافي) يكشف عن نظرة (بعض) المؤسسات إلى المرأة بوصفها (سلعة) يستعمل جسدها للتسويق التجاري.
أما الربط ( الذي قد يهدف إلى التسويق الثقافي) فقد يكون أحياناً عملاً واعيا ناتجاً عن صناعة إنسانية (فردية أو مؤسساتية) لزرع قيم ثقافية واجتماعية جديدة. فالارتباطات ليست انعكاساً للقيم الثقافية السائدة، وإنما هي محاولة لزرع قيم ثقافية جديدة، وهو شكل من أشكال الربط بين شيئين من أجل إضفاء معنى أو معاني أحدهما على الآخر، أو لتعزيز ارتباطهما ببعض في الثقافة الشعبية، ويمكن ملاحظة هذا مثلا في بعض الأفلام الأمريكية التي تكون فيها البطولة مشتركة بين أبيض وأسود، أو بين رجل وامرأة، فهذا الربط قد يراد منه تعزيز قيم نبذ العنصرية بين البيض والسود، أو زرع مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة.
الجمهور واستقبال الصورة:
كيف يستقبل الجمهور هذه التمثيلات والارتباطات؟، وكيف يتعامل الجمهور مع الثقافة التي تشيعها هذه الصور؟. يمكن القول بأن استجابة الجمهور لمثل هذه الصور قد تكون واحداً من ثلاثة إما استحسان preferred أو مساءلة negotiated أو رفض oppositional. فالمستحسِن يستقبل النص ويقبل أيديولوجيا النص أو معناه الثقافي ويخضع له، والمسائِل يقف موقفاً محايداً فلا يقبل أيديولوجيا النص لكنه لا يأخذ منها موقفاً مضاداً، لأنه لا يعي المضمر الثقافي، فمثلاً قد يرفض شخص إعلان المرأة عن شفرة حلاقة مثلا لعدم التناسب بينهما، لكنه لا يفهم البعد الثقافي الكامن في تسليع المرأة وراء مثل هذا الإعلان. أما الرافض فيستقبل النص ويعي أيديولوجياته ومعناه الثقافي المضمر ويعارض هذا المعنى ويقاومه. إن الأمر يشبه تذويب المخدر في القهوة لشخص ما، فعندما يقدم له المشروب فإما أن يشربه دون أن يشعر بمذاق المخدر، أو أن يستشعر تغير المذاق لكنه لا يكمل الشرب دون أن يستشعر السبب الحقيقي، وإما أن يشم أو يلحظ تغير الشكل أو الرائحة ويعرف أنه المخدر فيرفض تناوله ويحذر غيره من ذلك.
وهذا الموقف الأخير (الرافض) هو الدور الذي يقوم به النقد الثقافي، فهو يسعى إلى الكشف عن المضمرات الثقافية التي تتستّر خلفها بعض الصور بغية طمس الهويات الثقافية، أو لصناعة منظومة جديدة من القيم التي تسحق إنسانية الإنسان، وتسعى إلى تحقيق مكاسبها الخاصة عبر تسخير الإنسان واستغلاله لخدمة أجنداتها الخاصة.