Saturday 05/04/2014 Issue 433 السبت 5 ,جمادى الثانية 1435 العدد
05/04/2014

«بزنسة المفاهيم» -2-

الفراغ في ذاته قيمة مطلقة له ظله الدلالي ذو الصفة الاعتبارية على أساس أن كل حيّز هو امتلاء معنوي وليس معدوما حاصله مرتبط بتوفر قيمة أو شكل ذات بعد ثقافيين يتبع المقتضى؛ هل هذه إشارة إلى قدرة الاستحقاق الخاصة بالجوهر وتجسيده ثقافيا؟ أحسب ذلك ممكنا وجائزا معا.

ولا يمكن أن يُقارن الفراغ بالصفرية الثقافية كما لا يمكن تأويله على أنه معادل للحدية الصفرية لثقافة مُفرّغة بالتهديم أو الإلغاء أو الإقصاء؛ فليس الأمر هاهنا مرجعه اختلاف الصفرية عن الفراغ بموجود أو معروف بقيمة وشكل ثقافيين أو معدوم أو مجهول القيمة والشكل الثقافيين؛ إنما الاختلاف يكمن في ماهية الحالة وفاعلها والأثر المترتب عليها والتكاثر المرتبط بتعدد الخلفيات.

فالصفرية هي «حامل مُفرّغ» لقيمة مُدرَك ثقافي ثابتة سابقة ورغم التفريغ تظل قيمة ذلك المدرك السابقة هي جزء من تاريخ تلك الصفرية تتحكم فيما يلي من احتواء لمدركات وقيمة أقرب للتراكمية الإدراكية منها إلى الإضافية ولذلك وصفتها بالثابت.

في حين أن «الفراغ» أو ما يُمكن أن يُدرك أو المجرد القابل للإدراك أو مجموع المفاهيم القابلة للتأمل وصناعة الإدراك الخاص بها من قبل الفاعل هو «دلالة صامتة» يستطيع كل «فاعل» أن يستنطقها بطريقته الخاصة وبمحمولاته التاريخية، وبذلك فنحن أمام قيمة لمُدركات تتزايد بالإضافة وفق كفاءة الكفاية التصوريّة للفاعل.

وقد يقف متأمل أمام العبارة السابقة مستفسرا عن مستوى الفرق بين الخلفية التاريخية للصفرية المكتسبة من تفريغ قيمة سابقة تُرجح فائدتها بالتراكمية والخلفية التاريخية للفراغ المكتسبة من الذاكرة التاريخية للفاعل والتجربة الثقافية له، التي تُرجح فائدتها بالإضافة، على اعتبار كيف تختلف نوع الفائدة وطبيعتها بين أمرين يشتركان في خاصية واحدة متحكمة في الإنتاج؟

وهذا السؤال يتعلق بحاصل الخلفية التاريخية وطبيعته.

والأمر هنا يتعلق بمستوى قدرة مصدر التأثير على تشكيل كفاءة كفاية التصوّر، والحكم على قوة قدرة مصدر التأثير يعتمد على المساحة التي يملكها من حرية التصرف في تشكيل الكفاية الأدائية للتصور وكلما اتسعت مساحة حرية التصرف لقوة مصدر التأثير مالت الكفاية الأدائية للتصور إلى الاستقلالية المُحفّزة للقيمة بالإضافة.

وهو ما يعني أن حرية التصرف في تشكيل الكفاءة التصورية للمدرك تكاد تكون مقيدة في حالة الحدية الصفرية الحاصلة من تفريغ قيمة لمدرك سابق.

أما من يرى أن «التأويل» قد يكون طريقة معالجة لحرية التصرف المقيدة، فالأمر حسبما أعتقد أن التأويل هو طريقة بلا شك لمعالجة حرية التصرف، ولكنه ليس وسيلة لفك قيد حرية التصرف الثقافي، بمعنى أن التأويل إستراتيجية توسيعية تهدف إلى تعريض المدركات الثقافية بما يتوافق مع طبيعة الخلفية المكتسبة وضمن جذر تشريعي مقيد وليست إستراتيجية بنائية تسعى إلى خلق مدركات ثقافية جديدة الجذر التشريعي قابل للتجديد.

إذن الخلفيتان هاهنا وإن ظهرتا ذات خاصية واحدة فهما يختلفان في سعة طاقة الحرية ومساحة الاستقلال الناتجة عن تلك السعة.

ولكن هل بالضرورة المتلازمة أن ما يُبنى على الصفرية ثابت القيمة بالتراكمية وما يُبنى على حاصل الفراغ من ذاكرة تاريخ الفاعل وخبراته المختلفة والمتنوعة ثابت القيمة بالإضافة؟ غالبا يجب أن يكون الأمر كذلك إذا استثنينا احتيال فاعل التصفير وإعادة تدوير القيمة السابقة من خلال استغلال المحتمل المّدرك أو «الفراغ» وتحقق تلك الضرورة المتلازمة وفق المقصد الذي أوضحته سابقا للفراغ -بأن مُستنطِق المحتمل المدرك يمارس ذاكرته التاريخية وتجربته وخبرته في الاستنطاق وهو ما يعني وقوع شبهة أدلجة للحاصل -قد يدفع البعض ليعتقد أن التشكيل الإدراكي للمفاهيم بهذه الطريقة تُغرقها في الذاتية، كما أنها توقعها في فخ العشوائية و»بزنسة المفاهيم»، وهو ما يرقى بالمفاهيم معايير الموضوعية والاستدامة والحيادية كما يحيط المفاهيم بشبهة الأدلجة.

يعتمد تحول الفراغ إلى مُدرك إلى «الكيفية» التي تتحكم في طبيعة الحاصل «مجموع التصورات والمفاهيم»، كما أن الكيفية هي التي تستطيع أن تستنطق الجوهر أو تزوره، وهذا يجعل الكيفية حامل محتمل للاحتيال على الجوهر؛ إذا لا يمكن أن نتواصل مع الجوهر إلا عبر الكيفية كما أنه لا يمكن أن نكتشف الجوهر إلا من خلال الكيفية.

وتتشكل الكيفية من خلال الإدراك والتصور وكلاهما فاعلا الترسيم أي من يصنعان مجموع المفاهيم.

فالتصور هو الذي يؤسس الدورة العقلية؛ الانتقال من الفعل إلى الفكر إلى العقل ثم من العقل إلى الفكر إلى الفعل.

وهنا العقل يختفي في زي التصور لتكوين عملية البناء الكيفية سواء على مستوى المعطى الحسي (الإحساس السلبي) أو مستوى المعطى العقلي (الإحساس الإيجابي).

وعملية الكيفية. ليست عملية تحويل المعطى الأولي إلى معطى فعلي، بل هي أيضاء عملية انبناء للمعطى الفعلي ليصبح تصورا.

إن كل «إدراك يحمل إدراكا أوليا» و»كل تصور يحمل تصورا أوليا» هل هذا يعني أن التصور الثاني مبني على التصور الأولي والإدراك الثاني مبني على الإدراك الأولي؟

إن الحمل لا يقتضي بالضرورة التأثير، إنه أشبه «بأرشيف» خاص بحركة تداول التصورات والإدراكات، ولذلك قلت سابقا إن الحدية الصفرية لا تفقد قيمة مدركها المحذوف بعد التفريغ إنما تظل تلك القيمة جزءا من تاريخ تلك الصفرية تتحكم فيما يلي من احتواء لمدركات وقيمة أقرب للتراكمية الإدراكية منها إلى الإضافية، كما قلت إن مستنطِق الجوهر في فراغه أو المحتمل القابل للإدراك يمارس ذلك الاستنطاق من خلال ذاكرته التاريخية وخبراته المختلفة والمتنوعة.

ويرجع تعدد التصورات والإدراكات إلى تعدد وتنوع تجارب الفرد ونضوجها، وذلك النضوج هو الذي يُرجح الفائدة النهائية الصانعة لقيمة المفاهيم وماهياتها.

ومجموع التجارب التي كانت دون مستوى التجربة الصانعة لقيمة المفهوم وماهيته أو ما خرجت عن إطار ومحتوى الإحالة ذات الحد التشريعي تُحسب رغم الفصل الذهني لها ضمن «الإدراك الأولي والتصور الأولي»، وبالتالي لا يمكن أن تُشكل أي تأثير على صناعة القيمة الإدراكية للمفهوم وماهيته، لا تؤثر في المطلق لكن وقوع تأثير احتمال قائم في ضوء توافر ظرفيات خاصة.

أما المؤثرات التي تؤثر في حركة تشكيل التصورات والإدراكات فهي الإحساس والاعتقاد والاستبطان والأدلة، فتلك المؤثرات هي مكونات الوعي؛ الوعي الذي يُمكننا من صناعة المفاهيم وما يتوافق معها من مفاهيم، وهي أيضا بطريقة أخرى تُهيئ استعدادنا لقبول حقائق خاصة أو رفضها.

فهل يُمكن أن يتعرض مُستنطِق الفراغ أو مُستنطِق المحتمل للتصور والإدراك إلى ثنائية الدفع والضغط لمدى علائقي أيديولوجي مُحصن بتصديق شرعي يتحكم في بنية صناعته للمفاهيم وما يتعلق بها من حقائق تعرضه لشبهة بزنسة المفاهيم؟

- جدة