(1)
عندما تنحو فلسطينية إلى كتابة جزء يسير من سيرة الرحيل والاغتراب الفلسطيني، لا بد أنها تعيش خصاماً مع ذاتها. الفلسطينيون لم يكتبوا لغاية اليوم سيرتهم النضالية بنفس نقدي/ واقعي. ذلك أن هذه السيرة، غالباً ما تؤتى بصيغة الغائب الذي لا يمكن أن يذكر من سيرته سوى ما يحيله بطلاً لا يجب أن تتخلله النواقص، هذا ما يحصل حين تحضر سيرة الماضي. فكل مناضل أو مقاتل أو (فدائي) هو بالضرورة بطل دون التمحيص في سيرته الذاتية التي يعد الدخول في تفاصيلها، خيانة لبطولاته، أو للصورة التي عليها أن ترافقه.
والحال، أن الفلسطينيين يعرفون، خصوصاً، أولئك الذي عاشوا خارج فلسطين التاريخية والجغرافية، أن المرحلة النضالية الفلسطينية. أو سيرة النضال الفلسطيني، مرت بحقبتين مختلفتين ومتباعدتين تباعد الكواكب عن بعضها البعض. مرحلة ما يعرف بأيلول الأسود، التي سبقتها معركة الكرامة. والمرحلة التي تلتها مباشرة وأسماها إدوارد سعيد «الشتات الجديد» أي ما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، الذي تم بمباركة ومساعدة ومساندة من النظام السوري، لكسر رمزية منظمة التحرير الفلسطينية، وتحطيم رأسها المتمثل بياسر عرفات. فالخروج الفلسطيني لقوات الثورة الفلسطينية على متن السفن إلى المنافي الجديدة في اليونان وبعض دول أوروبا ودول المغرب العربي. لم يكن خروجاً لمهزوم في معركة عسكرية، قدر ما كان خروجاً على فكرة الاستقرار التي يحلم بها الفلسطيني، التي كادت أن تتحقق في لبنان لما يزيد على العقد من الزمن. وهي الهروب الفلسطيني الدائم باتجاه فكرة الوطن، الذي مع الأسف لم يصلوا له حتى اليوم. كما أنها المنافي، التي وإن بقيت جذوة الكفاح فيها مشتعلة لبعض الوقت، حين تم التخطيط، من تونس، للانتفاضة الأولى. إلا أن المناضلين أصحاب القضية تراجعوا لتسيير أمورهم اليومية وحياتهم في تلك الأماكن البعيدة عن الحدود مع وطنهم الأم.
والحق أن الفدائي، الذي ينام في المغر والوديان وينفذ العمليات العسكرية ضد المحتل. تلك الصورة التي ارتسمت واقعاً في حياة الفلسطيني لفترة طويلة. لم تكن سوى مجرد صورة رمزية متعلقة بالحماسة الثورية التي سببها التشرد والتهميش الذي طال شخصية الفلسطيني الفرد كجزء من جماعة مهمشة عانى أصحابها من تكالب بعض الأنظمة الديكتاتورية عليهم وعلى قضيتهم، فباعوا واشتروا فيها كما باعوا واشتروا في أصحابها. ولعل خير مثال على هذا التضاد في تعاطي هذه الأنظمة مع القضية كشعار ومع الفلسطينيين كهمٍ لا بد من تحطيمه ومحوه كلياً، ما يحصل حالياً في مخيم اليرموك الذي يعاني ساكنوه الأمرين من نظام الأسد، في حين أن النظام نفسه يرفع شعارات تحرير فلسطين ثمن شعبية بين أوساط في سوق السياسة كما لو أن هذه القضية علبة محارم ورقية لمسح العار الذي يجلله وليس عار من يهمشهم من شعبه ومن اللاجئين معاً وسوياً.
تذهب مايا أبو الحيات، الروائية الفلسطينية المقيمة في القدس. تذهب مذهب إنزال هذه الصورة من مصاف البطولات لأشخاص خارقين إلى مصاف البشر العاديين الذين يسعون كما غيرهم من الناس لحياة ملؤها الرتابة والركض خلف تحسين ظروفها وشروطها. فالدائي الذي تكتب عنه، كان مناضلاً ماهراً في فنون القتال ومقارعة إسرائيل. ومن نابلس إلى الأردن ثم إلى بيروت وبعدها إسبانيا ثم تونس. كان أبو السعيد الذي خرج من نابلس مراهقاً وحارب في الأردن ثم استقر به الحال في بيروت، أيام كان للفلسطينيين سلطة فعلية في هذا البلد الهش. كان مناضلاً ومقاتلاً في الشكل والمظهر. لكنه في المقابل كان عنيفاً وظالماً وبلا رحمة، على تضاد تامٍ ما يجب أن يتحلى به شخص عانى من التهميش والظلم والاضطهاد.
الفترة التي تتحدث عنها مايا أبو الحيات، وتصور من خلالها شخصية أبو السعيد. تلك الفترة البيروتية التي عاشها الفلسطينيون وأسموها فترة (العز). لم تكن فترة محض نضالية وفدائية وقتالية، بل فترة التطاول على الذات المهمشة، التي لم تستفد، عملياً، من أدبيات الثورات التي سادت منذ الخمسينات وأفرزت صورة نمطية للثائر على مثال خارق شخصه أرنستو غيفارا في ذروة انطلاق الشعارات المضادة للرأسمالية البشعة والمقيتة، على ما كانت هذه الشعارات تسوق تاريخياً. فسواء في الضفة الغربية قبل العام 1967 أو في الأردن حين اضطر هذا البلد الصعب إلى قمع أي تحرك فدائي من أراضيه تجاه فلسطين لتأمين استقرار حقيقي في بلد مهتز اجتماعياً وسياسيا وديمغرافياً، أو حتى في لبنان وعاصمته التي سميت منطقة من مناطقها بدولة الفاكهاني، كانت الشخصية الفلسطينية للفدائي والمناضل تتبلور على شكل فضاضة تكسرُ صورة الحلم الذي شكله الصعود السريع للنضال الفلسطيني الذي سعى نظرياً إلى استعادة الشخصية الفلسطينية قوتها ورتابتها في الوقت عينه. هناك، في ذلك المكان، بيروت، عاش الفدائي الفلسطيني كفدائي وإنسان. نزل من الجبال والوعر الأردني إلى قلب مدينة، كانت لا تزال تعتبر المكان الأرحب للعيش والحياة الحداثية في الشرق الأوسط. جاء من مجتمعات غارقة في المحافظة ثم مر في مرحلة التقشف في العيش والحياة وصولا إلى بيروت. كان لا بد لهذه الشخصية من مواجهة الصدمة، ولعل أكبر الصدمات التي واجهت المقاتلين الفلسطينيين الذين وصلوا إلى بيروت، صدمة تحولهم من حياتهم السابقة حيث كانت أكبر الامتيازات، الذهاب إلى سينما وسط البلد في عمان، دخولهم في مدينة غارقة في الحداثة والتطور الاجتماعي وامتيازات الجغرافيا. فبات الفدائي الذي ينظر له كشخص خارق وأسطوري وجد ليتحدى السيكلوب الإسرائيلي المدجج بأموال الغرب. بات خارج الصورة التقليدية والطوباوية التي كان عليه التمسك بها. صورة الإنسان الذي من الممكن أن يكون مزاجياً وسكيراً وعربيداً وشرساً كما مع الأعداء كذلك مع نفسه.
(2)
تنقل لنا مايا أبو الحيات بطلٌ، تخوض معه مراحل النضال الفلسطيني، ثم، بشكل ملفت لا تني تذكر بالأمراض الاجتماعية الطبيعية الموجودة في جسم المجتمع الفلسطيني. فتقدير أبو السعيد للمرأة كما تنقل الرواية، لا يرقى إلى أخلاق الفدائي والمناضل. فالنضال لا يتجزأ بين مسألة وأخرى. النضال هو النضال. والمناضل الحقيقي الذي يقدر قيمة الأرض لا بد له وأن يقدر المرأة التي في كثير من جوانب وجودها تتماهى مع الأرض بما يعني العناء كما يعني الإقامة، نقيم على الأرض ونقيم مع المرأة.
يدلنا السرد الذي تتقنه أبو الحيات ببساطة وسلاسة، كما تدلنا مفرداتها المتخففة من كل أدبيات النضال. تدلنا إلى أن النموذج الذي ساقته هو نموذج الإنسان الذي حُمل أكثر مما يحتمل. فلا النضال مفيد في البيت أو في العلاقات الاجتماعية، ولا الإنسان نفسه، قادر على إنزال شخصية المناضل على شخصية الإنسان. لكن في حالة أبو السعيد، فقد حافظ على الصلف الذي تتمتع به شخصية المقاتل الذي عاش في الجبال والوديان في حياته الاجتماعية وهذا أسس لتحطيم صورة المناضل في الحد الذي يسمح به لكاتبة فلسطينية انتقاد الشخصية الثورية التي أسبغت بها الشخصية الفلسطينية.
(3)
تروي أبو الحيات سيرة أبو السعيد فيما أسماه إدوارد سعيد (الشتات الجديد). هناك في تونس حيث الوطن بعيد، حيث الحدود ليست مع إسرائيل، حيث البحر والنساء والخمول والاستكانة إلى العاديات والعلاقات الاجتماعية الطبيعية. تكسرت الشخصية النضالية وأصبحت شخصية رتيبة لا فارق بينها وبين الشخصية الفلسطينية التي بقيت على أرض فلسطين وتحمل ما تحمل من مشاكل وموروثات اجتماعية لا يمكنها أن تنسجم مع المجتمعات المتحررة.
مع طفلتيه، عاش هذا الرجل حياة القمع الأسري لفتاتين لا ذنب لهما سوى أنهما ولدتا من أم لبنانية وأب جاء من نابلس المحافظة إلى بيروت. أصبح في غمضة عين رب أسرة بعدما كان هذا الهم خارج حساباته الأساسية. لم يعتد على ذلك، حاول، لكنه، اكتشف حين تحول إلى رب أسرة أنه غير قادر على الاستمرار في لعب دور لا يشبه دوره الذي اختاره لنفسه.
تعتبر رواية أبو الحيات، بعد التحول الذي أحدثه محمود درويش في رؤيته الشعرية للأرض والوطن والأم والحبيبة، تعتبر من الروايات القليلة، بل والنادرة، التي اختارت لنفسها طريقاً ينتهج النقد من خلال تحويل الشعارات إلى وقائع محسوسة لا يردها سوى كونها تتحدث عن شخصية رسمت بإتقان لكن هشمها كثر الترحال والاختلاطات وما يسببه من كوارث نفسية لا يمكن علاجها إلا حين يدرك الفلسطيني أنه غير قادر علي الإقامة في الأسطورة الثورية مدى الحياة.