لم أسمع يوماً عن كتاب قاتل, وعلى الرغم من ذلك فإن هناك من يخشاه كخشيته من القتلة البشريين الذين دأبوا على سفك الدماء وبث الرعب في قلوب الضعفاء, لكن ما أعرفه وأؤمن به هو أن بعض الكتب قد غيرت بالفعل النمط التقليدي في التفكير وحولته إلى التفكير الإبداعي الذي اتفق علماء النفس على أنه «عملية معرفية تؤدي إلى توليد نتاج جديد يتصف بالمرونة والأصالة وهو بذلك ليس نتاجاً تلقائياً أو عشوائياً, بل ثمرة جهود عقلية خلاقة». (1) وقد عرفه مور (Moore,1985) بأنه نشاط عقلي هادف يؤدي إلى أفكار جديدة ويعبر عن حلول لمشكلة ورغبة في البحث عن حل منشود والتوصل إلى نتائج لم تكن معروفة من قبل.
كل تلك المهارات العقلية لم تكن لتكون لدى البشر لو أنهم رضخوا لما يكتسبونه من مهارات فردية من خلال تعايشهم واحتكاكهم مع البشر وما يتراكم لديهم من خبرات فحسب دون تطوير تلك المهارات بالتعلم عن طريق القراءة والاطلاع وبالتالي اتساع الرؤية والإدراك والأفق مما يعني قبول الأفكار الجديدة وتحليلها وأخذ المستحسن منها وتنفيذه وبالتالي التقدم والتحضر.
فقد عرف هونيج (Honig,2001) التفكير الإبداعي على أنه التفكير المتشعب الذي يتضمن تحطيم وتقسيم الأفكار القديمة وعمل روابط جديدة, وتوسيع حدود المعرفة, وإدخال الأفكار العجيبة والمدهشة. أي توليد أفكار ونواتج جديدة من خلال التفاعل الذهني وزيادة المسافة المفاهيمية بين الفرد وما يكتسبه من خبرات.
إن الداعي لعنونة المقال بالعنوان أعلاه هو تلك الشراكة الفكرية بين كل دكتاتوري ورجعي في الخوف من ذلك الكتاب الذي قد يعين الناس على تطوير مفاهيمهم وتوسيع مداركهم مما يساعدهم على التغيير وعدم التصديق بكل خرافة رسموها حول أنفسهم ومجتمعاتهم, وبالتالي قتل كل تلك المفاهيم التي غرسوها لسنوات طويلة في عقول الناس مما يعني سقوط الإمبراطورية أو الخرافة التي ظلوا يغذونها في الرؤوس ويستبدلون بها العقل وتشوه صورة المثل الأعلى لكلاهما. ففي حين ظل الدكتاتوري في مختلف الشعوب وعبر الأزمنة المختلفة يتفق مع نظرائه في الاعتماد على سياسة (التجهيل) ومحاربة الكتب والفلاسفة وقمع المثقفين خوفاً من تغيير نظرات الناس ورؤاهم حوله مازال في زمننا هذا بعض الرجعيين الذين يخشون من الكتب كخشيتهم من القتلة ويعتقدون أن الناس سيظلون بخير طالما يصدقون الخرافات التي ينسجونها حول أبطالهم الذين يتبعونهم أو يؤمنون بطرحهم ويردونهم دوماً أن يسلموهم فكرهم لكي يسيطروا على ما يلمع كضوء من الأفكار الحداثية ويطردونها من رؤوسهم كما يهشون ويطردون الذباب عن زادهم.
وهذا الميل من الرجعيين إلى مقاومة التغيير والتشبث بالوضع الراهن والحفاظ على الإرث القديم من الأفكار دون تطوير أو تغيير هو ما يعطل في مجتمعنا المشروع الثقافي الداعي إلى تطوير المناهج ورفع نسبة الوعي وافتتاح أقسام دراسية علمية جديدة في الجامعات وفتح المجال للمرأة لدخول بعض الأقسام التي ظلت حكراً على الرجال ويؤخره كثيراً, فبينما نجد أن شعوب العالم تزدهر بثقافتها وعلمها بسبب حرصهم الدائم على قراءة الكتب وتطوير المناهج العلمية وطرائق التدريس نظل نحن في دائرة مغلقة مظلمة مليئة بالأفكار القديمة التي لم تعد مجدية في زمن الانترنت والانفتاح الإعلامي.
وقد قال ميخائيل نعيمة (عندما تصبح المكتبة في البيت ضرورة كالطاولة والسرير والكرسي والمطبخ عندئذ يمكن القول بأننا أصبحنا قوماً متحضرين) وهذا القول الذي يربط بين الحضارة ووجود المكتبة في المنزل إنما يؤكد على أهمية المطالعة المستمرة وأن نحول تلك القراءة إلى عادة يومية وضرورة حياتية، فالكتب هي ثروة العالم المخزونة وأفضل إرث للأجيال والأمم كما قال هنري دافيفيد ثورو, فهي بالتأكيد تحفظ للأمم القادمة علمنا وحضارتنا وتبقي عليها ليبدأ الآخرون من حيث انتهينا, كما وجدنا في كتب ابن خلدون وابن الهيثم وأبوبكر الرازي والخوارزمي وجابر بن حيان والفارابي وعباس بن فرناس وغيرهم من علماء المسلمين.
والغريب في الأمر أن الحرب على الكتب تأتي من أمة (اقرأ) والتي يفترض أن تكون هي أكثر الأمم اهتماماً بالقراءة والعلم بدلاً من الحرب على الكتب والمثقفين والفلاسفة وكأنهم قتلة وليسوا بباحثين عن تطوير وتنوير الفكر.