Saturday 04/01/2014 Issue 424 السبت 3 ,ربيع الاول 1435 العدد

تراثنا ... والمثقفون 3-3

فباطلٌ كلَّ البطلان أن يكون في هذه الدنيا على ما هي عليه، « ثقافة» يمكن أن تكون « ثقافة عالمية»، أي ثقافةٌ واحدةٌ يشترك فيها البشر جميعاً، ويمتزجون على اختلاف لغاتهم ومِلَلهم ونِحَلهم وأجناسهم وأوطانهم. فهذا تَدلِيسٌ كبيرٌ، وإنما يُراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم؛ هدفٌ آخرُ يتعلّق بفرض سيطرة أمّةٍ غالبة على أمم مغلوبة، لتبقى تبعاً لها. فالثقافات متعددة بتعدد «المِلل»، ومتميزة بتميُّز «الملل»، ولكل ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال مُنتَّزَعٌ من «الدين» الذي تدين به لا محالة.

فالثقافات المتباينة تتحاور، وتتناظر، وتتناقش؛ ولكن لا تتداخل تداخلاً يُفضـي إلى الامتزاج البتَّةَ، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئاً، إلا بعد عرضِهِ على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال، فإن استجاب للأسلوب أخذَتْهُ وعَدَّلَتْهُ وخلَّصَتْهُ من الشوائب، وإن استعصـى نبذَتْهُ واطَّرحَتْهُ. وهذا باب واسع جداً، ليس هذا مكان بيانه، ولكني لا أفارقه حتَّى أُنبِّهَكَ لشيء مهم جداً، هو أنْ تفصل فصْلاً حاسماً بين ما يُسمَّى «ثقافة» وبين ما يسمّى « علماً» - أعني: العلوم البحتة -؛ لأن لكل منهما طبيعةً مباينةً للآخر، فالثقافة مقصورةٌ على أمةٍ واحدةٍ تدين بدين واحد؛ والعلم مُشاعٌ بين خلق الله جميعاً، يشتركون فيه اشتراكاً واحداً مهما اختلفت الملل والعقائد).

قلتُ: والناظر في حياتنا اليوم، يجد الانكباب التام على الكتب الغربية الأدبية والتاريخية، بل والعقدية والفلسفية، هذا في جانب القراء.

وأما في جانب الغالبية التي تتابع « اللهو» و « اللعب»؛ فأصبح اهتمامهم بفرق الغرب الكروية، ومسلسلاتهم، وبرامجهم الحوارية؛ أمراً ينذر بخطر.

وهذا غاية مطمع الكفار في استحواذهم عقول المسلمين، وتفريغها من ثوابتها، وتاريخها، وعظمائها، وملئها بهذه التفاهات المخالفة لديننا في كثير منها، والمنافية لقيمنا ولغتنا وثقافتنا، فإلى الله المشتكى وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال العلامة: عبدالسلام هارون - رحمه الله -: (أي انفكاك بين المرء وتراثه، أو بين المرء ووطنه؛ يخلق منه أمراً تتجاذبه أطراف الضياع وفقدان النفس؛ وضياعُ النفس مدعاة إلى التفكك والتخلخل، والشعور بالبؤس والمذلة اللتين لا تطيب معهما الحياة.

وإذا ذهبت في المقابلة بين جيلنا الذي نشأنا فيه، وبين هذا الجيل الذي يعيشه أبناؤنا؛ وجدنا الفرق شاسعاً بين شعورنا بكياننا العزيز الوثيق، وكيان بعض أبنائنا الذين انفصلوا عن المتعة بالتراث العربي متمثِّلاً في ضروبه المختلفة).

.قلت: كلامه هذا قبل (27 سنة تقريباً)، (نشر بتاريخ 1987م)، وللعلامة الشيخ: محمد الخضر حسين كلامٌ نحو هذا قبل (60 سنة)، وللأديب: محمد عبدالله عنان، كلامٌ رائعٌ قبل (80 سنة)! وبعدهم للإبراهيمي الجزائري، ولمحمود شاكر، وغيرهم.

رحم الله أولئك الأعلام الكبار، وأعظم مثوبتهم؛ وإنك لتعجب: إذا كانت وقفتهم بهذه القوة، ووصفهم للبدايات بهذه الشناعة، فكيف لو رأوا زماننا هذا!؟ وما فيه من التهاتف العجيب، والصدوف عن التراث، بل ودعوة العامة إلى النهل من كتب الفلسفة الأوربية، والروايات الأجنبية، والمذكرات الفارغة! نسأل الله العفو والعافية، والسلامة في الدين والدنيا والآخرة -.

قال الأستاذ: ناصر الدين الأسد: (إن تراث الأمة هو روحها، ومقوماتها، وتاريخها؛ والأمة التي تتخلى عن تراثها تميتُ روحها، وتهدم مقوماتها، وتعيش بلا تاريخ.

والأمم كلها مهما تكن فلسفتها الاجتماعية والاقتصادية، تحرص أشد الحرص على تراثها، وتبذل جهوداً كبيرة لإحيائه ونشرِه، وبثِّه في نفوس أبنائها؛ بل إن بعض الأمم الحديثة تفتعل لنفسِها تراثاً تجمع أجزاءَه تجميعاً، وتنفخ فيه نفخاً؛ لتتم له صورة تفئ إليها الأمة، وتنطلق منها.

فليس صحيحاً أن الأخذ بأسباب الحضارة يستلزم هدم التراث، وقد انخدعت بعض الأمم بهذه الدعوى، فأصبحت كالمُنْبَتِّ لا أرضاً قطعَ، ولا ظهراً أبقى!

وإنما الصحيح أنَّ تَقدُّمَ الأمةِ - حين تبدأ الحياة تنسابُ فيها - إنما يكون من داخل نفسها، وينطلق من تراثها).

والحديث عن ضوابط النقل والاستفادة من ثقافة الأجانب، والجواب عن إشكالية التوهم في التناقض بين الاستفادة من صناعاتهم المتطورة()، وترك آدابهم وتاريخهم، كل هذا تجده مبسوطاً في كتاب لطيف متين، عنوانه:

«الانفتاح الفكري، حقيقته وضوابطه» د. عبدالرحيم بن صمايل السلمي - جزاه الله خيراً -.

أخيراً،أشعر بأني لم أقلْ شيئاً! هيبةً للموضوع، وتعجباً من توضيح الواضحات!

الموضوع مستبحر، يتعب فيه الإيجاز، وتمدُّ فيه المباحث فصولاً، والفصول أبواباً، ومن كل باب كتاباً، ويبقى حقُّ تُراث الأمة دَيْنٌ على الخَلَف، ومن لا تاريخ له، لا حاضر له.

** ** **

المراجع

«صبح الأعشى» (1-467).

ينظر: «الكتاب في الحضارة الإسلامية» د. يحيى الجبوري (ص 169 - 244)، « قطوف أدبية» لعبدالسلام هارون (ص31)، « الذخائر الشرقية» لكوركيس عواد العراقي (5-360)، « الفكر السامي» للحَجَوي (2- 45 - 48)، «« المكتبات في الإسلام» د. محمد ماهر حمادة.

ينظر: « كناشة النوادر» لعبدالسلام هارون (ص 148).

فائدة: ردَّ البشيرُ الإبراهيمي الجزائري (ت 1385هـ) على من اتَّهم العرب فيما نقلوه عن غيرهم أنهم مجرد نقلة، لم يبذلوا جهداً في التمحيص، والتنقيح، والنقد، والإضافة. ينظر في « آثاره» (1/ 377).

« في أصول الأدب» لأحمد الزيات (ص 86).

ثم وقفتُ على العبارة التالية: قال إبراهيم المويلحي (ت 1324هـ): (والصحيفة الواحدة في اللغة العربية تكون ترجمتها إلى اللغات الغربية في صحيفتين أو ثلاث). «الشرق والغرب» (ص 40).

« الشرق والغرب» (ص66)، وانظر: « من وحي القلم» للرافعي (2/ 41).

« ذكريات الطنطاوي» (2/ 216).

قال الجاحظ في كتاب «الحيوان» (3/268): (وقَلَّ معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة، وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين، إلا ونحن قد وجدناه أو قريباً منه في أشعار العرب والأعراب، وفي معـرفـة أهلِ لُغَتنا وملَّتنا).

ينظر في ملابسات الاتصال بالثقافة الغربية: « المذاهب الأدبية الغربية» د. وليد قصاب (ص 18).

ينظر في الهدف من كتابات المستشرقين: « رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» لمحمود شاكر (ص59).

مقالة كتبها عام (1353هـ- 1935م)، في مجلة المقتطف، وهي ضمن «جمهرة مقالاته» (2/700).

«آثاره» (2-468).

«آثاره» (1- 377). وانظر: « تقرير عن شؤون التعليم والقضاء» لأحمد شاكر (ص41 - 42).

«حركة الترجمة من اللغات الشرقية إلى اللغة اللاتينية» د. إيمان سقيو (ص297)، وقد أحالت إلى: «المدنية الإسلامية» لسعيد عاشور (ص77)، و«أثر الأدب الأوربي على القصة الفرنسية في العصر الوسيط» للشوباشي (ص70)، و« بحوث في تاريخ وحضارة الإسلام» للسيد عبدالعزيز (ص309).

«الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» د.محمد محمد حسين (2/207، 209).

وانظر: « مقالات الطناحي» (2/ 689)، و « تحت راية القرآن» للرافعي.

«حصوننا مهددة من الداخل» د.محمد محمد حسين ـ ط.الأولى سنة 1387هـ (ص101)، وانظر كلاماً رائعاً لمحمود شاكر في كتابيه: «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» لمحمود شاكر (ص154- 159)، و« المتنبي» (22 - 23). ولناصر الدين الأسد في بحثه «التراث والمجتمع الجديد» وقد نشـره في كتابه « تحقيقات في اللغة والأدب» (ص187، 190).

ينظر: «آثار الإبراهيمي» (5/ 213).

«جمهرة مقالات محمود شاكر» (2/ 1083)، وانظر «أباطيل وأسمار» (ص497، 500، 504، 518).

وانظر في بيان أن المذاهب الأدبية عند جميع الأمم مرتبطة بعقائدها، وليست آراء أدبية مجرَّدة. « المذاهب الأدبية الغربية رؤية فكرية وفنية» د. وليد القصَّاب (ص 271 وما بعدها).

«آثاره» (2-467 - 472).

ينظر: «من وحي القلم» للرافعي (3/ 155).

«رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» لمحمود شاكر (ص74- 75)، وانظر (ص31).

«قطوف أدبية» للعلامة: عبدالسلام هارون (ص79)، وانظر: « من وحي القلم» للرافعي (3/ 393 - 394).

«تحقيقات في اللغة والأدب» (ص 187 - 188).

فائدة: انظر مقالة رائعة حول «موقفنا من الحضارة الغربية» للطنطاوي، نشرها في «مجلة الرسالة»، (العدد الثالث شوال 1356هـ)، ثم نُشِرت في كتاب «صور وخواطر» (ص56) ضمن رسالته إلى أخيه المبتعث إلى باريس، وذكر جزءاً منها في« الذكريات» (4/ 109). وانظر: « التقليد والتبعية» د. العقل (ص37)، « رسائل الإصلاح» للخضـر حسين (1/ 150)، وللدكتور: محمد محمد حسين كتابٌ من أجود الكتب في موضوعه «الإسلام والحضارة الغربية».

إبراهيم المديهش - الرياض