مع ارتفاع مد حركة التأليف والنشر لدينا، وتراكم التجربة الإبداعية لعدة أجيال متعاقبة، وترافقها في المقابل بحركة نقد. تتزايد حاجتنا الماسة لوجود خطاب نقدي قوي وفاعل لغربلة خطابنا النقدي المعاصر، حتى لا يظل الإبداع أسير نظريات، ومناهج نقدية غربية تجاوزها الزمن، يتم الترويج لها واجترارها دون تعمق وإحاطة تامة بجزئياتها، نتيجة ارتهان نقاد كثر، لمقالات، وكتب نقدية غربية مترجمة فرعية في علومها بسبب ضعف حركة الترجمة، وعدم توافر حصيلة لغوية أجنبية كافية تعين بعض النقاد على قراءة ومتابعة ما يستجد من المنجز الغربي النقدي بلغته الأم.
ومن المفروغ منه، أن أي منجز فكري أو إبداعي إنساني هو بحاجة ماسة لحالة من المراجعة والدرس والتأمل الدوري، للخروج بأفضل ماجاد به العقل البشري، ومن ثم البناء عليه، ومحاولة فصل ما يحمل مقومات وجينات البقاء، عما يثبت رداءته وعدم قدرته على الصمود، حتى لا ينتهي الحال بالمنجز لحالة من الركود، وليظل منفتحا باستمرار على آفاق فكرية وإبداعية جديدة.
ولايشذ النقد الأدبي عن ذلك، فهو أحد الحقول المعرفية الهامة التي تلعب دورا رئيسا في عملية تقويم وبناء المنتج الإبداعي وتخليصه مما علق به من شوائب.
ومن هنا تجيء أهمية تفعيل اشتغالات خطاب»نقد النقد»، على المنجز النقدي المحلي وفق رؤية، ومنهجية واضحة تسعى لتحصين الخطاب النقدي بخطاب نقدي مواز يعمل أدواته في دراسة قضايا النقد وتأمل إشكالاته ومراجعة مفاهيمه، لاسيما الملتبس والمستغلق منها على الفهم. ملتفتا إلى أنها مجرد نظريات تحتكم للنسبية وخصائص المرحلة التاريخية التي أنتجت فيها حتى يتم بعد ذلك تجاوزها، والانفتاح على أفق نقدي جديد، أكثر وعيا وحيوية وملاءمة لمفردات العصر، وحتى لا يستمر تدوير الإبداع في فلك نظريات ومناهج نقدية جامدة يتم اجترارها بعد أن ثبت عدم جدوى وفاعلية بعضها. ما يتسبب في عرقلة محاولات فردية جادة لتجديد الخطاب النقدي المعاصر وتخليصه من حالة الجمود والنمطية.
وعودا للبدايات، وحديث تكرر أكثر من مرة في أروقة عدد من النقاد العرب، أن إرهاصات خطاب،نقد النقد، بدأت في الظهور بشكل ضمني ودون تسمية للمصطلح في المشهد الثقافي العربي مع ظهور كتاب الشعر الجاهلي» لطه حسين، وإن بدت تاليا أكثر وضوحا لدى عباس محمود العقاد في مقدمة كتابه»بعد الأعاصير»، الذي أكد فيها أن على النقد أن لايغدو مزاجا يعكس نوايا النفاق والمحاباة والمجاملة. واقترح تحصين النقد بما سماه، نقد النقد.
وقد بدأ الدكتور جابر عصفور وبعض النقاد الشباب في السبعينيات من القرن الماضي بمراجعة تجارب رواد مثل طه حسين. وكان كتاب عصفور (المرايا المتجاورة، دراسة في نقد طه حسين)، وهو كتاب في، نقد النقد، هو ثمرة دراسته ومراجعته الواعية تلك، وقد كانت بدايات الاثنين طه حسين، وجابر عصفور، متشابهة فلكل منهما تجربة غير مكتملة مع الشعر، ومن ثم انطلاقة قوية نحو النقد، وقام عصفور في مطلع تجربته النقدية بتتبع تجربة طه حسين النقدية.
كما اشتغل المفكر مطاع صفدي في نقد تجارب عدد من المفكرين الغربيين مثل نيتشة، وللشاعر أدونيس وعدد من النقاد العرب أيضا تجارب مختلفة في، نقد النقد.
وفي مشهدنا المحلي تبرز تجربة نقد النقد، لدى كل من الدكتور عبدالله الغذامي، والدكتور سعد البازعي، فلدى الأول كتاب»النقد الثقافي»، والكتاب كما هو معروف صدر في عام 2000، وهو كتاب مثير للجدل، وعنوانه، ونظرياته، ومحتواه، محرض على تبني مزيد من خطاب نقد النقد تجاه ماطرح فيه، وقد أعلن الغذامي من خلاله موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي محله، معتبرا بأن المرحلة مرحلة مراجعة نقدية. يقول فيه»و بما أنا نمر في مرحلتنا الثقافية الراهنة بحال من المراجعة النقدية الذاتية فإن ذلك هو ما يفرض السؤال المرحلي المتشكك على نظريات النقد والحداثة».
وفي كتابهما «دليل الناقد الأدبي»، توقف الدكتور ميجان الرويلي والدكتور سعد البازعي عند مصطلح عنوان «النقد الثقافي»، وقد راجع البازعي بعض أفكار الغذامي.
وفي كتابه»استقبال الآخر, الغرب في النقد العربي المعاصر»، اشتغل الدكتور سعد البازعي على، نقد النقد، من خلال نقد النقد العربي المعاصر، وارتباطه الوثيق بالنقد الغربي.
والسؤال: هل هذه الاشتغالات كافية؟
الحقيقة لا، فالساحة النقدية لا تزال متعطشة لمزيد من غربلة المنجز النقدي، وتصعيد عملية القيام بمراجعات جريئة متعمقة، حتى يتعافى النقد مما هو فيه من وهن وترهلات، ويكتسب دفق جديد يمكنه من مواكبة المد المتزايد من الإبداع، دون أن تتوقف أنفاسه.