لم تتعرّض الثقافة العربية في عصر من عصورها إلى ما تتعرّض إليه اليوم من أخطار. لقد تكالبت عليها قوى الشّرّ، ونهشتها من كلّ جانب، إلى الدّرجة التي أصبحت فيه هذه الثقافة مجرّد هيكلٍ خاوٍ تعوي في جنباته الريح. لقد جرى دكّها بعنف، وذبحها من الوريد إلى الوريد، حتى باتت غائبة عن الوعي، وبالتّالي غائبة عن الفاعلية والتّأثير. إنّ ما نراه اليوم من تردّي وشرذمة على صعيد أوضاع الأمّة العربية، وما نشاهده من حروب داخلية ومجازر هو في واقع الأمر نتيجة من نتائج هذا الغياب المدوّي للدّور الذي كان من الممكن أن تقوم به هذه الثقافة.
قبل خمسة عقود من الآن تحرّرت البلاد العربية من قبضة الاستعمار، واشتعلت قلوب الملايين بأحلام الوحدة والتحرير. وقد وصل المدّ القومي ذروته بصعود الظاهرة الناصرية وتصدّرها واجهة المشهد. كان نشيد (قسماً بالنّازلات الماحقات) يصعد من الحناجر، ويتردّد صداه من الماء إلى الماء. وبناءً عليه فقد استطاعت الثقافة العربية في تلك الأوقات أن تُمارس حضورها الفاعل في أوساط الطّبقات الاجتماعية، وأن تتحوّل إلى رمز صلب من رموز المواجهة، هذا على الرّغم من أدواتها البسيطة وطراوة عودها في تلك المرحلة.
اليوم وفي ظلّ التّقدّم العلمي الهائل الذي وصلت إليه البلدان العربية، وانتشار التعليم على نطاق واسع، وازدهار حركة النشر والترجمة، فإنّنا لا نكاد نجد أثراً لهذه الثقافة في صيرورة الأحداث. على العكس من ذلك فإنّنا نجد هناك نتائج مخيّبة للآمال تتمثّل في بروز عدد كبير من الظواهر السّلبية التي لم تكن موجودة في الماضي.
فالصّراعات المحتدمة في أكثر من بلد عربي أو الحروب الأهلية إذا جاز التّعبير، بالإضافة إلى مسخ القضيّة الفلسطينية ومسخرتها على هذه الصورة أمور لم تكن لتحدث بمعزل عن رِدّة فاقعة نخرت أساس الثقافة العربية وشوّهت جوهرها.
ما هذه الثقافة العربية التي تُفرّخ الحروب بين أبناء البلد الواحد! في لبنان مثلاً لم تحل كلّ المؤسسات الثقافية فيها ولا جماعات المثقفين العرب ولا كلّ ذلك الحراك الثقافي الذي كان يجري دون انفجار الحرب الأهلية في أواسط السّبعينيّات من القرن الماضي، والتي ما زالت مستمرّة بوسائل وأقنعة جديدة. في العراق الوضع أكثر كارثية.
فقد انقلبت الأمور هناك رأساً على عقب، سنوات قليلة وتحوّل البلد من حاضنة للقومية العربية إلى نثار غريب من الطوائف والإثنيّات التي باتت تطرح بوضوح مسألة تفتيت الكيان العراقي الواحد إلى مجموعة من الدّويلات. أين ذهبت المطبعة العراقية التي كانت تضخّ آلافاً مؤلّفة من الكتب والمجلاّت؟ أين ذهب القرّاء العراقيّون الذين كانوا يلتهمون الكتب؟ أنا أفهم أن يكون هناك احتلال غاشم يجيء إلى البلد ويستولي على مقدّراته، ولكنني لا أفهم أن تجري من قِبَل أبناء هذا البلد عملية هدم كاملة لكلّ شيء، ثمّ الوقوع في فخّ الاحتلال و(الاشتراك) في تفجير حرب أهلية شاملة! ما أجمل الأميّة في هذه الحال، الأميّة (الثورية) التي أشعل الفلاحون البسطاء من خلالها الثورات في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وأدّت إلى طرد الاستعمار!
والآن إذا ما ذهبنا إلى الوضع الفلسطيني وعاينّاه بدقّة فإنّنا سنكون أمام أسوأ النتائج. لقد ذهب شعر المقاومة وكلّ الأدبيّات العربية التي ضخّت الوريد الفلسطيني بالصّمود والحماسة وعلى مدار قرن تقريباً أدراج الرّياح! فقد اضمحلّت القضية الفلسطينية وتقهقرت ليس على مستوى الشعور القومي بها فقط وإنّما على المستوى الفلسطيني نفسه.
تحوّلات غريبة حدثت في الجسد الفلسطيني المقاوم الذي انتقل من خندق التّحرير والمجابهة في آخر الأمر إلى خندق الأعداء. لقد (تُوّج) النّضال الفلسطيني الذي التهب لعشرات السنين باتّفاقية أوسلو التي ما زالت سارية المفعول حتى هذه اللحظة، والتي قادتنا جميعاً إلى المذود. إنّ الاعتراف بالكيان الصّهيوني الذي قدّمته الاتفاقية السابقة أمر لم يكن يراود الثقافة العربية ولا المثقفين العرب في يوم من الأيّام. لقد نشأ بسبب هذه الاتفاقية وأخواتها من الاتفاقيات الأخرى أجواء من الميوعة طالت أكثر ما طالت الجسد الثقافي العربي الذي بات يشهد ولادة تيّارات هجينة من المثقفين بعضها (واقعي) وبعضها مُتأمرك، وبعضها متأسرل!
انقضى القرن العشرون ودلفنا إلى الألفية الثالثة وقد انهار المشروع الثقافي العربي ووصل إلى حالة عظيمة من الإرباك والفوضى. وقد انعكست آثار هذا التّقهقر على مختلف النّواحي والصّعد في الحياة العربية وفي الوجود العربي وفي مستقبل هذا الوجود. لم يكن كافياً أن يفشل حلم الوحدة، ولا أن يُشار إلى الوطن العربي بأسماء بديلة كالشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل أصبحت تطبخ هناك مؤامرات شيطانية تنظّر لما يسمّى للشّرق الأوسط الكبير الذي يمكن أن يكون شبيهاً بِ(حِسبة) كبيرة من الدّويلات والشعوب.
على صعيد المثقفين العرب نجد الأوضاع تسير من سيّئ إلى أسوأ. فهم وعلى الرغم من أعمالهم الإبداعية وروابطهم واتّحاداتهم الثقافية التي أنشأوها وسهروا عليها لم يستطيعوا أن يصنعوا تغيّرات ذات بال تمسّ الجوهر والعمق في الحياة العربية. بمعنى أنّ الثّقافة التي يقومون بصناعتها هي ثقافة أقرب إلى التّسلية والتّرويح عن النّفس من كونها ثقافة عضوية تنشد التّغيير الحاسم. إنّ المؤشّر الكبير على خلل هذه الثقافة يتمثّل في غياب الرّؤى الحادّة النّاقدة والجريئة من قاموس هذه الثقافة، التي يصنعها المفكّرون عادةً. إنّ هذه الثقافة التي تكتظّ بالشعراء والروائيين وفي الوقت نفسه شبه الخالية من المفكّرين الكبار هي ثقافة يسهل نبذها والقفز عليها.
من أكبر الخدع التي جرى ترويجها على المثقفين العرب هي تلك المقولة الدّاعية إلى فصل السّياسي عن الثقافي. وأنا هنا لا أستبعد على الإطلاق أن تكون هناك جهات مشبوهة وراء هذه الخدعة التي اقتنع بها قسم كبير من المثقفين. كان من نتائج هذه القناعة أن تمّ عزل الثقافة عن مجالها الحيوي والذّهاب بها إلى أجواء التّهويم والالتباس. لقد كان ترويج هذه الخدعة مقدِّمةً لترويج ما هو أخطر: تبرير الخيانة والارتماء في الحضن المعادي. ثمّ خلع الملابس والتّخفّف من ورقة التوت الأخيرة والرّقص بكامل العري في الشارع العام. وهذا ما حدث فعلاً.