كان مخطط الرحلة يقتضي أن تكون الأيام الخمسة الأولى في (ديسنسانو ديل جاردا)، حيث تصبح هذه القرية الريفية الصغيرة الهادئة نقطة الانطلاق لزيارة المدن القريبة منها، وهو في رأيي خيار جيد نظراً إلى الموقع الاستراتيجي لهذه القرية، حيث تتوسَّط مجموعة من المدن الشهيرة والسياحية في البلاد، ثم وقوعها على بحيرة كبيرة زادت من جمالها، ثم بالنظر إلى الجانب الاقتصادي للإقامة فيها، كانت الليلة الأولى فرصة لاكتشاف المنطقة.
كنا في الصباح الثاني على موعد مع أولى الزيارات، كان لا بد من الاستيقاظ مبكرا لاستثمار الوقت والاستمتاع بمشاهد الطبيعة التي سترافقنا في الطريق الذي كان السير فيه بحد ذاته سياحة جميلة ومتعة بصرية، حيث المساحات الخضراء الواسعة، والجبال المترامية على الجانبين، تكسو بعضها الثلوج في مشاهد تخلب الألباب، لم تكن (فيرونا) تبعد عن قريتنا سوى نصف ساعة، وحين دخلناها شعرتُ باختلاف المدينة عن القرية، مع أنها لم تكن بتلك الاتساع الكبير الذي يميز العواصم والمدن الكبرى، توقفنا في وسط المدينة وبدأت رحلة استكشافها.
كان من أهم المعالم التي تتميز بها(فيرونا) وتحتفي بها المدرج الروماني الضخم الذي يتوسط المدينة، ويستضيف هذا العام (أوبراليا) في نسختها العشرين، وهي -كما يخبرني أحد الحراس العرب لهذا المدرج- مسابقة الأوبرا الأكثر شهرةً في العالم، وتعنى باكتشاف مواهب غنائيةٍ جديدةٍ من كل أنحاء العالم، كانت المرة الأولى التي أدخل فيها مدرجا رومانيا، كان هائل الاتساع، تخيلت عظم تلك الحضارة التي أضحى هذا المدرج من آثارها، وتصورت مدى الوحشية التي كان يعيشها أصحابها حين كانت الحشود تملأ هذا المدرج العظيم لتشاهد وتستمتع بلعبة المصارعة التي تنتهي بقتل أحد اللاعبين.
وإذا كانت (فيرونا) تستقبل سنوياً مئات الآلاف من السياح سنويا لغناها الفني ومناسباتها السنوية المتنوعة فإنَّ أكثر ما تشتهر به كونها مسرحاً لأعظم أعمال الكاتب الإنجليزي (ويليام شكسبير) (روميو وجولييت)، وقد استغل المسؤولون هذا الأمر فوضعوا شرفةً في إحدى الساحات الصغيرة لتكون تجسيداً للشرفة الخيالية التي صوَّرها (شكسبير) في مسرحيته الشهيرة، وذكروا أنَّ (جولييت) كانت تطل من خلالها على (روميو)، بل إنَّ تأثير هذه المسرحية تجاوز هذا الأمر ليصل إلى أن أُطلق على هذه المدينة (مدينة الحب)، وعلى الجانب الآخر من الشرفة ترى جداراً خُصِّص ليكتب كلُّ عشيقين اسميهما عليه، عسى أن يكون بينهما قصة حب كما بين عشيقي المسرحية، باستثناء نهايتهما المأساوية!
أما اليوم الثاني فكان من نصيب أجمل المدن الإيطالية وأكثرها جذباً للسياح، ومن منا لم يسمع بـ(فينيسيا) أو (جزر البندقية)، كان يجب علينا أن نوقف سيارتنا في طرف المدينة، حيث لا تسمح طبيعتها بدخول السيارات؛ نظراً لكونها مجموعة من الجزر التي يتخللها نهرٌ متعرِّج، وفيها أكثر من 400 جسر، كانت مدينة استثنائية بمعنى الكلمة، غير أنَّ جزءاً من تاريخها القبيح لا يزال عالقاً في ذهني، ويزاحم جمالها وجمال طبيعتها وأجوائها، حيث كانت تعد من أهم مرافئ أوروبا التجارية أثناء الحملات الصليبية بما كانت تتمتع به من قوة بحرية هائلة آنذاك.
أما بالنسبة إلى الجزء اليابس فهو خالٍ من الأماكن الهامة، سوى ميدان (سان ماركو) الذي يوجد في المركز التاريخي الذي يطلق عليه لفظ ميدان أو بالإيطالية «piazza» حيث الميادين الأخرى يطلق عليها اسم ساحات، وتوجد في وسط هذا الميدان كنيسة (سان ماركو) المطلية بالذهب والمرصعة بالفسيفساء حاكيةً فصولاً من تاريخ المدينة. ونظراً لطبيعة (البندقية) التاريخية فقد صُوِّر في أنحائها العديد من أفلام السينما الإيطالية، كما تُعدُّ مقراً هاماً للجامعات في إيطاليا، أشهرها جامعة (كافوسكاري) التي تُقدِّم محاضرات ودروساً في الاقتصاد والتجارة واللغات والأدب الأجنبي والفلسفة والعلوم الطبيعية، ولا يمكن تجاوز (فينيسيا) دون الإشارة إلى (تاجر البندقية) أشهر مسرحيات (شكسبير) التي اتخذت من هذه المدينة مسرحاً لأحداثها، وحظيت بدراسة مستمرة من النقاد العالميين.
وفي اليوم الثالث كنا على موعد مع مدينة(سيرموني) الملاصقة لقريتنا الصغيرة، كانت هادئةً وصغيرةً كـ(ديسنسانو)، ومثلها في إطلالتها على البحيرة، غير أنها سياحية بالدرجة الأولى، فلا تكاد تجد فيها سوى الأجانب؛ ولذا فإنَّ السائح لن يجد عناء في العثور على فندق لكثرة توزعها في الأنحاء، وتتميز (سيرموني) بقلعة كبيرة تروي جدرانها تراثاً يفتخر فيه أصحابه، كما تتميز بأنها تحتضنMovie Studios Park التي تكشف لك عن كيفية صناعة الأفلام السينمائية المتنوعة. أما أشهر المدن الإيطالية (ميلان) فكان اليوم الرابع من نصيبها، كانت تبعد عن قريتنا قرابة ساعة ونصف، كانت أول مدينة كبرى تواجهنا بضخامتها واتساعها اللافتين، بوصفها أكبر المدن الإيطالية بعد العاصمة، إلا أنَّ الازدحام الذي واجهناه أنذر بمعاناة القيادة فيها، وصعوبة العثور على موقفٍ مناسبٍ وقريبٍ من وسط المدينة، حيث التجوُّل في مثل هذه المدن مشياً على الأقدام هو الخيار الأفضل؛ ابتعاداً عن المخالفات المرورية، وحرصاً على استثمار الوقت، اتجهنا إلى (الدومو) أشهر المعالم التاريخية، وأحد أهم المباني في أوروبا، وثالث أكبر كنيسة فيها. كما زرنا قصر (الكاستلو) الذي يُعدُّ من من أهم القلاع القديمة التي تحمل جدرانها تاريخا عظيما، ولم نفوِّت بطبيعة الحال التجول في أشهر شوارعها (كورس بونس ايرس) الشارع التجاري العريق الذي لا ينام، ويحتضن أشهر الماركات العالمية من الملابس والأحذية والعطور والإكسسوارات، كانت (ميلان) باختصار مدينة عملية للغاية، تتسم بالهمة والنشاط طوال الليل والنهار.
وبغياب شمس هذا اليوم نكون قد ودَّعنا الشمال الإيطالي، لنبدأ من الغد رحلةً جديدةً نزولاً إلى الجنوب، لزيارة مدينتين من أهم وأشهر مدن البلاد.