-1-
تلك الثقافات المطفّفة في موازينها، التي إذ اكتالت على العالم الثالث أو الإسلامي وصفت أعماله بالإرهاب، وأقواله بمعاداة الساميّة، وإذا كالت ذلك العالمَ عَدَّت انتهاكات دولها من باب نشر الفضيلة الديمقراطيّة، والفوضى الخلّاقة، هي ثقافات بدائيّة، غير متحضِّرة، مهما بهرجت وجوهها. تلك الثقافات التي تصف سفاهة إعلامها وإعلاميّيها بالحُريّة، يا من لا تفقهون قداسة التعبير الحُرّ.. إلخ! فإذا كان الشأن في حقّ (محمّد)، فهو حُريّة تعبير، وإنْ كان في حقّ (يسوع)، فهو تجديف ممنوع؛ كما فعلت (بريطانيا) في منع “فيلم المسيح”، وأيَّدها القضاء، وأيدتها محكمة حقوق الإنسان الأوروبيّة، في قرارها بتأريخ 25/ 11/ 1996. في حين يحمي هؤلاء (سلمان رشدي) قانونيًّا، ويجعلون ممَّن يُسيء إلى الإسلام رمزًا عالميًّا، ويجعلون ممَّن يُنكر ذلك إرهابيًّا عالميًّا! ولسنا مع العدوان على أيّ (سلمان)، وحسابه على الله، لكننا نوازن المواقف النفاقيّة. نعم، في عالمنا العربي والإسلامي فجاجةٌ لا تُنكر في التعبير والاحتجاج، لكن ذلك لا يزيح اللوحة المقابلة الهمجيّة في معاييرها، حيث تُكال القِيَم الثقافيّة تطفيفًا كما تُكال القِيَم السياسيَّة! وعلى المرء أن يكون غبيًّا جدًّا، أو أن يتغابَى، أو أن يكون عبدًا بلا شرف، لكي لا يلحظ تطفيف تلك المكاييل! وفي الغرب كذلك ديمقراطيّات ظاهريّة، تُثبت نفاقها كلّ صباح ومساء، وتُبرهن على بُطلان مثاليّاتها المدّعاة، حينما تتصادم مع المصالح الخاصة، أو الانحياز السياسي الاستراتيجي. من شواهد ذلك الكثيرة مشروع (الكونغرس الأميركي)، الذي طلع على العالم منذ حين من الدهر، وكان يرمي لمعاقبة الأقمار الصناعيّة التي تبثّ من خلالها فضائيّات عربيّة برامج سياسيّة تنتقد مواقف الإدارة الأميركيّة. ذلك المشروع الذي تناوله في حينه (مركز الدراسات العربي-الأوروبي) في (باريس)، فاتحًا باب الحِوار حوله عبر زاوية “سؤال تحت المجهر” في موقعه الإلكتروني. وهذه هي أُمّ الديمقراطيّات ومعلِّمتها الأُولى بزعمها في العالم! ترى أين ذهبت حُريّة التعبير هناك؟! أو ثقافة قبول الرأي، التي يُتذرَّع بها حينما يَضِجّ الآخرون من بذاءات غربيّة، وإساءات إلى الثقافات الشرقيّة أو الدِّيانات السماويّة، باسم الديمقراطيّة وحُريّة التعبير؟! كلّا، الإنسان هو الإنسان، وجهالاته هي جهالاته في كلّ مكان. إنما الآليّات تختلف. هناك مَن لا يزال يتطي الحُمُر والبغال، ومَن يمتطي حاملات الطائرات والبوارج. غير أن العقليّة واحدة، والغاية لا تختلف.
-2-
وماذا عن الخطاب الدِّيني المتطرِّف، الذي يُحرق الأخضر واليابس؟ أجل لدينا منه ما الله به عليم. ولقد شوّه الإسلام والمسلمين في العالَمين، وأصبح ذريعة للحرب عليهما. اقترفه سفهاء، يعيشون خارج التاريخ؛ فهم خوارج على كلّ شيء، على العقل والدِّين والحضارة والمجتمع البشري. وهؤلاء ألدّ أعدائنا قبل سواهم؛ لأنهم ينخرون في جسد الأمّة من ناحية؛ لتعطيل مَلَكاتها واستراجعها إلى كهوف الماضي، وهم في الوقت عينه عملاء للعدوّ الأجنبي؛ بما يزلفونه بين يديه من ذرائع عدوانيّة. لكن الطَّرَف الآخَر لديه مثل ذلك كذلك! فلدى (الكيان الصهيوني)- على سبيل الشاهد الأقرب- هيئة من الحاخامات المفتين/ “المفترين”! ولدى قادته مرجعيّاتهم الدِّينيّة، التي تسوِّغ عدوانهم، ومجازرهم. ومن ثَمَّ فإن ذلك الكِيان كِيانٌ دينيٌّ حتى النخاع، يحارب عن عقيدة، تغذِّيها مرجعيّاته الدِّينيَّة بالدعم المعنوي والحوافز “الروحيّة”، كلّما حَزَبَه أمر، وما أكثر ما تحزبه الأمور، بوصفه محتلًّا غاصبًا، ذا خطاب عنصريّ.(1) وفي الوقت نفسه هنالك من العقلاء، الإنسانيّين، مَن يرفضون تلك السياسات المؤدلجة بالدِّين. هنالك مَن يقف ضدّ الدِّين السياسي الصهيوني، والسياسة الدِّينية الصهيونيّة. ومِن هؤلاء (نورمان فنكلشتاين Norman G. Finkelstein)، الأستاذ الجامعي الأمريكي، الذي يُضطهد في (أمريكا)، لا في (إسرائيل)، بسبب مواقفه المنصفة. مع أن والد الرجل كان من ضحايا “الهولوكوست”. ففي موقعه على الشبكة العالميّة للمعلومات نجده يعبِّر عن الحقوق الفلسطينيّة المهدرة عالميًّا، على نحوٍ- ربما- أبلغ ممّا يفعله فلسطينيّ.
(2)
إنها الخارطة البشريّة نفسها، بين الخير والشرّ. غير أن التعبير بآليّاته قد يختلف، فيبدو ناعمًا هنا، وشائكًا هناك.
-3-
أمّا التطفيف على المستوى الاجتماعي، فشواهده بلا حدود. أبرزها في ثقافتنا العربيّة ما يتعلّق بحقوق المرأة. فإذا كان العرب قد وأدوا البنات حقيقةً، كما يشير القرآن إلى ذلك، وتشير أحاديث الرسول، والسِّيَر، والشِّعر العربي، فلقد استمرّ وأد المرأة المعنوي، وباهَى به الشعراء في العصور الإسلاميّة(3). وأمّا تفضيل الأبناء على البنات، فحدِّث ولا حرج. وهو ما عبَّر عنه (أبو تمّام)(4)- على سبيل النموذج- فيما كان يُعلي من أهميَّة قصيدته “الذكوريّة” لدى الممدوح، وكأنها بُشرَى أبي البنات بالمولود الذَّكَر:
يُعطي بِها البُشرَى الكَريمُ وَيَحتَبي
ِرِدائِها في المَحفَلِ المَشهودِ
بُشرَى الغَنِيِّ أَبي البَناتِ تَتابَعَتْ
بُشراؤُهُ بِالفارِسِ المَولودِ
وما “بنت الدهر”، لدى (أبي الطيّب المتنبي) في بيته:
أَ بِنتَ الدَهرِ عِندي كُلُّ بِنتٍ
فَكَيفَ وَصَلتِ أَنتِ مِنَ الزِحامِ؟!
من ذاك الازدراء العنصري للأنوثة ببعيد! من حيث صارت “البنت” المعادلَ الموضوعيَّ في المخيال العربي لكلّ بلاء ومصيبة. وإذا كان ذلك كذلك، وهو كذلك، فإن من الوأد أنواعًا خفيَّة أيضًا، معنويَّة وماديَّة. وما نعني هنا بمصطلح “الوأد الخفيّ” ما ورد في حديث (عائشة) عن (جذامة بنت وهب) أخت (عكاشة): “حضرتُ رسولَ الله في أناس، فسُئل عن العزل، فقال: هذا الوأد الخفيّ”(5)، بل نعني عزلًا آخر أخفَى، ووأدًا آخر أنكى، ثقافيًّا واجتماعيًّا، لا (زيد بن عمرو بن نفيل) (6) له. وقد ترادفت الابتكارات العربيّة في العصور المتأخرة لألوان مستحدثة من الاضطهاد للنساء، وظهرت تنطُّعات ما أنزل الله بها من سُلطان، ولا سُمِع بها قطّ في الرعيل الأوَّل، لا الإسلاميّ ولا العربيّ. منها، على سبيل الشاهد، فِكرة البُكوريَّة، وربط شرف المرأة بذلك الغشاء، الذي يسمَّى غشاء البكارة. ولعلّ هذه النظرة الاجتماعيَّة إنما وَفدَت على المجتمعات العربيَّة عن بعض الأعراف الأفريقيّة أو الهنديّة. فصار الحفاظ على غشاء البكارة قضيَّة القضايا في المجتمع العربي، رُعبًا يُطارد الفتاة، وهاجسًا يُقلق الشاب. حتى لقد ظهرت طقوس في بعض مجتمعاتنا لما يُسمَّى ليلة الدُّخلة، ومنها ضرورة إبراز الآية الدمويَّة الدالَّة على عُذريَّة الفتاة. ونحو ذلك من “القرف” البدائي، الذي لم يُعرف حتى في الجاهليَّة الأولى.
وفي مجتمعات أخرى، أكثر حزمًا في الأمر، ربما أُجريت عمليات غريبة للبنات منذ الصغر، في سبيل الحفاظ على ذلك الغشاء المقدَّس، رمز العفّة والطهارة، من قبيل عمل خياطةٍ وقائيةٍ، ونحوها من الإجراءات الوحشيّة الاحترازيّة! هذا، على الرغم من أن هذا التصوّر غير صحيح بإطلاق، فلا سلامة الغشاء دليل العِفَّة، ولا تهتّكه دليل انتفائها. فلقد تفقد الفتاة غشاء بكارتها لأسباب لا علاقة لها بالاتصال الجنسي. كما أن ما يُسمَّى الغشاء المطّاطي قد لا يُحدِث أَلَمًا ولا ينزف دمًا في الليلة الموعودة. ولقد فطن بعض القدماء إلى هذا، حينما بدأت الانشغالات السخيفة بشأن العذريَّة والبكارة، وما يترتّب عليهما من عواقب مدمِّرة للنساء. ومن هذا ما رُوي من حديث (النخعي) حول الرجل الذي يقول إِنه لم يَجد امرأَتَه عَذْراء، فقال: “لا شيء عليه؛ لأَن العُذْرةَ قد تُذْهِبُها الحيضةُ، والوَثْبةُ، وطولُ التَّعْنِيس.”(7) فأين هذا من بعض فتاوى العصر، التي تحظر على الفتيات ممارسة حياتهنّ الطبيعيّة، ومنها ممارسة الرياضة، خوفًا على الغشاء المقدَّس؟! أو ما كانت الفتيات، قبل الإسلام وبعد الإسلام، يمتطين الإبل، والحمير، والبغال، والخيل، ويسعين في مناكب الأرض، وينهضن بأشق الأعمال؟ وما تناهَى إلى أسماعنا قطّ هذا الاستنفار العجيب للحيلولة دون أن يحدث لغشاء البكارة مكروه، ولا أن ذلك كان يُشكّل قلقًا للمرأة أو هاجسًا للرجل.
إنما هو التطفيف الثقافي، يردفه التخريف، تتواتر مظاهره وصوره في الأُمم على اختلافها. ولا علاج له إلّا بحاكميّة العقل، فرديًّا، وسلطانه قانونيًّا.
** ** **
(1) انظر مثلًا: جريدة “الوطن”، 20/ 1/ 1430هـ، تقرير بعنوان “المرجعيّة الدِّينيّة لأولمرت: اقتل حتى النساء والأطفال!”
(2) انظر موقعه على “الإنترنت”: http://normanfinkelstein.com
(3) انظر كتابي: (2006)، نَقْدُ القِيَم: مقارباتٌ تخطيطيَّـةٌ لمنهاجٍ عِلْمِيٍّ جديد، (بيروت: مؤسَّسة الانتشار العربي)، 91- 100.
(4) (1976)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تح. محمَّد عبده عَزَّام (القاهرة: دار المعارف)، 1: ص399 ب55.
(5) صحيح مسلم، كتاب النكاح، حديث رقم 2613.
(6) يشير (ابن هشام، (1955)، السيرة النبويّة، تح. مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبدالحفيظ شلبي (مصر: مصطفى البابي الحلبي)، 1: 224- 230) إلى أن (زيد بن عمرو بن نفيل) كان ينهَى عن الوأد في الجاهليّة، وأنه كان يُحيي الموؤودات؛ فإذا أراد أبٌ وَأْدَ ابنته أخذها منه فكفلها.
(7) انظر في هذا ما أورده: ابن منظور، لسان العرب المحيط، (عذر).
(*) ملحوظة: وقعَ خطأ طباعيّ في منشور قصيدتي في عدد 25 صفر 1435هـ من “المجلّة الثقافية”، وذلك في الشطر الأخير من البيت الأول، حيث نُشِر: “ذا الذي طَيْرُ شِعْرِيْ مِنْ مَعانِيْهِ”، وصوابه: “هذا الذي طَيْرُ شِعْرِيْ مِنْ مَعانِيْهِ”.