قالوا لي إن المرض الطويل، يُعمي عيني المفاجأة، يمهد الطريق للحظة (الفقد) ويربت على كتفك ويسندك عندما يصلك الخبر الأصعب، كنت أسمع ذلك وأمضي في طريقي دون فهم عميق لما يردده الجميع من حولي و أعتقد أني لم أفهم ذلك حتى هذه اللحظة ولن أفهمه.
لم يخبرني أحد أن مرضه الطويل والطويل (جداً) يجعل الفقد أقسى، يجعلك تتنفس رحيله بصعوبة، تفقد ابتسامته فصوته ثم تحن لنظراته، وتبحث عن صدى ضحكته، المرض الطويل يجعلك تفقده وتفتقده كل يوم، الفقد يجعلك تشد على ذاكرتك لعلك تتذكر متى كانت آخر مرة نطق فيها باسمك و متى كانت آخر مرة نظر إليك وأنت على (يقين) أنه يعرف من أنت.
الفقد يبدأ مبكراً جداً، يبدأ منذ اللحظة الأولى التي توترك نغمة رسائل هاتفك النصية خشية أن تحمل إحداها خبر رحيله، الفقد يبدأ منذ أن تختلط أوراقك ولا تعلم كيف تكون الحياة بلا والد زمناً طويلاً، الفقد يبدأ عندما تبحث كل حين كالأطفال عن صور (له) وهو بصحته ولم يعتد صحبة المرض بعد و الفقد هو أن تقرأ له الأخبار وهو نائم على سرير التعب لأنك تعلم كم يهمه ألا تفوته النشرة اليومية، الفقد أعظم بكثير من لحظة إعلان رحيله.
لا أستطيع اختزال أيام مرضه في كلمات ولا أستطيع الحديث عن ذكريات ما قبل المرض بسهولة ولكني أستطيع تصوير جلوسي بحضرته (رحمه الله) في قلب غرفته البيضاء في المشفى وتأملي لحضوره القوي رغم أنه مغمض العينين مستسلم لأنابيب الأكسجين وأجهزة التشافي وآراء الأطباء، تلك اللحظات التي لا أفهم فيها جيداً كيف تغيب شخصيته القوية وتبقى هيبته متسيدة المكان تماماً كما لم أفهم الهواجس التي كانت تمر في طريقي لغرفته، والهواجس التي تجلس بجانبي بحضرته، والأحاسيس التي تملكتني في وداعه الأخير في المسجد.
كل هذا التمهيد لقلبي لكي لا يتقن الحزن ويغيب في التفاصيل، كل هذا التمهيد في نظرات الممرضات وبخيبة ملامح الأطباء، كل هذا التمهيد بأحاديث الأقارب والأحبة ولكن المفاجأة تظل مفاجأة! وخبر الرحيل ماهو إلا مشهد في حكاية (فقد).
«كل هذا التمهيد لكي أكتب عن حزن رحيله فأجدني أكتب عن حكاية فقده».