لعلّ الذين حظوا بامتلاك الوقت للإصغاء إلى ذواتهم، يعرفون، أكثر من غيرهم، أهميّة الكلمة، فالصمت الطويل لحساب التأمّل والتفكير، يخلق تصالحاً مع كلّ من الذات واللّغة.
لقد تمكّنت المرأة، خلال رحلة الصمت التاريخيّة، من اكتشاف أعماقها، ومن اكتشاف أهميّة اللّغة لها. كان الصمت سجنها، الذي تأمّلت وهي داخله طويلاً. تأمّلت تاريخها، الذي تضمّن حياة جدّتها، وأمّها، وعائلتها الأموميّة كلّها.كما كانت اللّغة مفتاح حريّتها، لذلك كان عليها أن تولي أهميّة خاصّة لسكب ذلك المفتاح، إذ يجب أن يناسب القفل تماماً، لا أن يكون أكبر أو أقلّ.
تكتب المرأة كلمتها ممثّلة عائلتها الأموميّة كلّها، فكتابتها ليست وليدة معاناتها الشخصيّة فحسب، بل هي وليدة معاناة العائلة الأنثروبولوجيّة الثقافيّة، وذلك أكثر بكثير من العائلة البيولوجيّة، فعلى الرغم من أنّ كلّ كاتبة تكتب من غرفة تخصّها وحدها، فإنّهنّ يكتبن بوصفهنّ امرأة واحدة، كما تقول فيرجينيا وولف.
توسم نصوص الكاتبات بالحنين إلى زمن ماض (نوستالجيا)، نبحث من خلاله في لا وعينا عن جدّاتنا. الرجل يقتل الأبّ، والمرأة تحيي الجدّة! يقتل الرجل الأب ويلتصق بأمّه، التي يرسم صورتها لابنته على أنّها معجزة، فتتعلّق الابنة بصورة الجدّة، وهكذا تصاغ العلاقات في العائلة الأموميّة.
تحمل رواية (دينا عبد السلام) «نصّ هجره أبطاله»، الصادرة في دار (بيت الياسمين)، القاهرة، 2013، كلاًّ من الأمومتين البيولوجيّة والأنثروبولوجيّة الثقافيّة، وتحكي قضيّة اغتراب مجتمعات، وأفراد في مرحلة انتقال البنية الاجتماعيّة الثقافيّة من نظام حكم إلى آخر، بعد ثورة 1952 في مصر، التي نقلتها من النظام الملكيّ وبذخه، والذي يمثّله فاروق ملك مصر والسودان، إلى النظام الجمهوريّ بقيادة العسكر، أو الضبّاط الأحرار، وما تبع ذلك من خروج الإثنيّات من الإسكندريّة، التي كانت أيقونة التعدّد في العالم العربيّ، إلى انتصار العمال، والفلّاحين، والمثقفين الثوريّين، والعسكر، فظهرت في المجتمع طبقتان: طبقة قادمة من بقايا الملكيّة الأرستقراطيّة، وطبقة ناشئة تشكّل البورجوازيّة الجديدة.
تصنع هذه التحوّلات الاجتماعيّة الثقافيّة نزوعاً رومنتيكيّاً لدى الأفراد، إذ تخضع الشخصيات لما يسمّى بالاغتراب (Alienation).تعاني كلّ من الجدّة، والحفيدة البطلة من الاغتراب الذي يتجلّى بمرض الوطن (Home sickness)، والذي لا يعني الرحيل الفيزيائيّ عن المكان فحسب، بل يمتدّ ليصل فكرة أن يرحل عنك الزمان والعناصر القيميّة المرتبطة به، وأنت جالس في مكانك.
تنحدر البطلة من سلالة أرستقراطيّة عن طريق الأم، فالجدّة تركيّة شعوبيّة، تؤمن بالتفوّق الحضاريّ للترك، والجدّ باشا، والابنة الغائبة عن النصّ تهجر هذه الأسرة الغارقة بالثقافة الكلاسيكيّة، لتهرب مع مصريّ، وتخلّف ابنة تحتضنها الجدّة، وتربيها على تلك التقاليد الكلاسيكيّة، يساعدها على ذلك العلاقات الاجتماعيّة في مكان مثل الإسكندريّة، يحفل بالإثنيّات، التي ينحدر كثير من أفرادها من سلالات تتمسّك بتلك التقاليد.
يخرج المجتمع من صندوق الأرستقراطيّة وتقاليدها، وتخرج معه البطلة التي تدخل كليّة الفنون، وتبدأ، بضغط عامل خارجيّ مؤثّر هو الحب، بالثورة على التقاليد القديمة، وذلك حينما تتعرّف إلى شاب مصريّ درس الفنّ في إيطاليا، والذي يمثّل مفتاح مرحلة (التنوير)، فالتنويرهو بلوغ سنّ النضج، ورفض الوصاية، ورفض التبعية للآخرين، لذا ما أن تدخل البطلة الجامعة، وتتعرّف إليه، حتّى تذهب في درب الفرديّة.
تمثّل شخصيّة هذا الشاب شخصيّة المنوِّر النموذجيّة، إذ يعلّم البطلة كيف ترسم بانفعالاتها، لا بتقليد الصور العظيمة الذي أتقنته عن جدّتها، والذي هو من أهمّ قواعد الكلاسيكيّة، كما يعلّمها الخروج من الصناديق كلّها: الأرستقراطيّة، والوصاية، والعقل، لتبدأ مغامرتها الخاصّة في البحث عن السعادة: «أريدك أن ترسمي نفسك كما رأيتها بعيني، همّي إلى اللوحة بروح جديدة، واغرقي فيما تمليه عليك دون التقيّد بأيّة قوانين أو أعراف...»، تلك المغامرة الرومانتيكيّة التي يرافق العذاب كلّ خطوة من خطواتها، إذ تنفصل البطلة عن جدّتها، وتفقد العائلة، والمدد الماديّ، وتصل حدّ الفقر، وتمرض، وتعمل، وتفقد عملها. إنّ الرومانتيكيّة، كما يقول فان تيغم، بحدّ ذاتها مغامرة، غايتها السعادة، على الرغم من الآلام التي تكبّل روح الإنسان، وطريقها إلى ذلك القلب والمخيّلة، لا العقل.
يمثّل الانفصال عن الجدّة انفصال الأنثى عن رحمها البيولوجيّ والثقافيّ في آن معاً، وهو انفصال مؤلم، ومقلق، لكن لابدّ منه لتحقيق الذات، لذا تنفصل البطلة عن جدّتها التي تموت، مثلما ماتت أمّها من قبل، ومثلما ماتت الخادمة التي أسهمت في تربيتها حزناً على الجدّة. بذلك الموت كلّه، تفقد البطلة أمّهاتها أو نماذجها الأن ثروبولوجيّة الثقافيّة جميعاً، وتعيش في النوستالجيا، التي تجرفها، وتحوّلها إلىالشخصيّة الرومانتيكية الرجعية النموذجيّة، التي تعود بعد حالة من الراديكاليّة في تمثيلها الرومانتيكيّ، لتبحث عن النماذج القديمة، فتجد ملامح أرستقراطية بائدة في الزوج الذي ستختاره، وهو أرستقراطيّ حافظ على شيء من أبّهته بعد التحوّلات، لكنّها تعود بعد سنوات الزواج والأمومة إلى حبيبها الرسّام (المنوِّر)، تاركة الزوج في سرير مرضه، لأنّها تبقى، مثل الرومنتيكيّين جميعاً، وفيّة لحلمها، ذلك الحلم الذي يجسّد كلّاً من حرّيتها، ونزعتها الفرديّة، واللّتين تشكّلان خصيصتين رومانتيكيّتين أصيلتين.
تمرض البطلة وتترك وهي على فراش مرضها رسائل لابنتها، تخبّرها بوساطتها الحكاية، وتورثها ذلك التاريخ الأموميّ العميق.
وهكذا، تستمرّ المرأة في الانجذاب بين هذين قطبين: تحرّرها من نسقها الأموميّ الموروث، الذي تحقّق به ذاتها مع الكثير من الآلام، وحنينها إلى نموذج الجدّة، حيث الاستقرار والأمان، مع كثير من التوق المترافق مع الآلام أيضاً.