* ما الذي يغري الجغرافيا بأن تكون قاسية جدًا إلى الحدّ الذي يجعلها تلتهم كل شيءٍ نحبه ؟ وطنًا نكتب له كل ليلةٍ ونصلي ليكونَ بخير، وأصدقاءَ لم نعدْ نعرف عنهم سوى ذكرياتنا المشتركة، ورسائلَنا التي تلوكها المسافاتُ بفجاجةٍ؟! تعدنا كثيرًا فنسمن بأوهامها وتأكلنا ثم تخلّل أسنانها مثل عجوزِ هانزل وجريتل المرعبة!
* ترسم الرسالة التي أكتبها على ظاهر كفيّ ندبتين على هيئة خارطتين، وتجعل من يديّ قارتين أعقد في إحداهما شريطةً صفراء لبيتي كي لا يشيخ، وفي الأخرى أقاسم النمل حباتِ الحلوى التي نقضمها معًا على طرف فنجان القهوة، ونترك منها فتاتًا على صفحة كتابٍ مثل حفل تأبينٍ لنملتنا المسحوقة بين طياته!
* منذ زمنٍ بعيدٍ لم أضع طابعًا بريديًا على رسالةٍ، برغم أني أرسل الكثير منها مؤخرًا، حتى الطوابع تخلّت عن رحلاتها السندباديةِ الكثيرة ومُنحت زاويةً على طرف معاملةٍ رسميةٍ مملةٍ، مثل محاربٍ قديمٍ حُوّل إلى الأرشيف! تزداد «قيمة» المعاملة كلما أكثرتَ من الطوابع، ألا يذكرك ذلك بأوسمة «الكولونيل» الكثيرة؟!!
* كل شيءٍ مهمٌ في الرسالة، حتى علامات الترقيم التي تخبّئ في حناياها ملامحَ المرسِل والمرسَل إليه أحيانًا ! فأنت فيها «لا تحرك شيئًا سوى قلبك»، إن أبيضَ فأبيض يصل، حتى لو كان حبرُك يقطر سوادًا، وإن لا فلا عزاء! ولعلك تجدُ في «الفاصلةِ» طوقَ نجاةٍ وفي «الهلالين» عيدًا وفي «النقطةِ» هوُيةً وفي «التعجبِ» خلاصًا، وفي «الاستفهامِ» مفتتحًا لدروبٍ أو مخرجًا منها!
* البريدُ خائنٌ والجغرافيا متواطئةٌ، «فالشيء الذي يصل بكل تأكيدٍ هو الموتُ أيها الكولونيل»! كما يقول موظف البريد المتجهّم لينبت اليأس عبثًا في روح المحارب الدؤوبِ المحكومِ بأملٍ معقودٍ على مركب البريد منذ خمسة عشر عامًا، «فبعض الرسائل لا تؤكل لكنها تغذي»!
* الوحيدون فقط هم الذين ينتظرون الرسائل، والذين يكتبونها أيضًا!