(أ)
لا أدري من قال: (ما زال ضمير العالم غضًّا)
عادةً، لا أكتب نثراً مقاليّاً بصيغة المتكلّم الفرد، بل أجد نفسي باتّجاه ضمير الجمع أو أيّ صياغة أخرى، ولعلّ أسباب ذلك يعود إلى أمرين، أحدهما: الابتعاد عن الأنا في الكتابة الفكريّة، لأنّ الفكر ليس حكراً على أحد دون آخر، كما أن تجارب كتابة الإبداع في الشعر والقصّة والسرديّاتتوازن النفس لأنّها تنطلق من الأنا وبشكل مكثّف، لأنّ الإبداع ملكيّةٌ والفكرُ مشاعٌ. (ب) والأمر الآخر هو التقية الفكريّة، التي شوّهت الوعي حتّى لكأني لا أعرف ماذا أريد، وأحتاج أولاً إلى عمرٍ جديدٍ من الحريّات أتنفّسها جيّداً ثمّ أحسن ما أقول عبرها، وهي التي أدّعي حلولها في عموم الكتّاب الذي ينشرون في الصحف السعوديّة،وعلى تنوّع تيّاراتهم، فإنّ كتاباتهم مصاغة تحت مقاساتِ توجّس اليمين الديني، ومن الصعوبة في مكان ما - ها هنا والآن- أن يفلت خطاباً يساريّاً لا يلتزم الصياغة التوفيقيّة التي فرضتها ظرفيّات: (حقوق الحريّة، منطق الإنجاز من وراء القول، صرامة الرقابات، الخلط في المفاهيم، غبش الرؤية) فالمناقشات الثقافيّة السعودية منشغلة بمناطحات لا أثر لها على مستوى الفعل، إمّا مناطحات بين تكتّلات ثقافيّة ودينيّة غير مؤثّرة وليست ذات وزن إلاّ ما تحمله من ضجّة مؤقّتة، وأخرى بين تجمّعات منقرضة؛ وبينما مخاوف التفكيك والتقسيم حاضرة بقوّة في واقع الحواضر العربيّة المجاورة، فإنّجدل أحقيّة الخلافة بين الصحابة وآثاره ما زال طاغياً على منطق العديد من الكتابات، بل ويفرض رأيه في الصراع مع إيران وسوريا والمخاطر في البحرين ولبنان.
- أمر لا تستوعبه جدليّات بيزنطة الدينيّة كلّها والسلطان محمد الفاتح على أبوابها.
ويبقى جدلهم البيزنطي داخل ذاك النطاق في مسائل تاريخيّة محسومة في التاريخ فعلام الصراخ والعويل، وأنتَ لا تفهم لماذا الإصرار على أسلمة جميع المخرجات الفكريّة الغربيّة، أو المصادقة على الفكر المعاصر عبر موروث تاريخيّ عربيّ- إسلاميّ، والحقّ أنّي تورّطت بهكذا شَرَكٍ، ولم أفلت من آثاره بين فينة وأخرى، على الرغم من إدراكي لمخاطره على الوعي، كأنّ الوعي في حالة (لا-شرعيّة) إذا لم يصادق على عقله الماديّمن منقولات التراث وحججه عبر التأويل أو التفسير أو التفكيك وكلّ ما أوتي من قوّة برهانيّة، أو كأنّ الوعي الإتّقائي يلجأ للمصادقة بحجّة التأكيد على عدم القطع بينه وبين الماضي والتاريخ، لكنّ الحقّ أيضاً: أنّها على مبدأ من (فمك أدينك) ومن مصادرك ما هو حجّة عليك لا حجّة على خصومك؛
أليس عباءة الفكر الديني حينذاك هي المسيطرة على الخطابات جميعاً: (الاشتراكيّة من الإسلام، الإسلام مع السوق الحرّ والرأسماليّة، الشيوعيّة وحركات اليسار الإسلامي، الليبراليّة لا تتعارض مع الإسلام، الاقتصاد الإسلامي، العلاج الإسلامي).
(ب)
قبل ثلاثين عاماً تورّطت بالكتابة، ولست أدري إن عرفت الندم على شيء قدر ما عرفته في الكتابة، وبالرغم من حكمة وعيتها في باكورة الوعي تخصّ جدوى النشر من عدمه، إلاّ أنّ هذا الوعي لم يكتمل للأسف، وخرقته مرّات عدّة، ممّا يُعدّ خرقاً للمعاهدة السلميّة السعاديّة بيني وبين اليأس. والأصلُ فيما أفكّر فيه مرتبط بالجدوى: ما جدوى الكتابة دون التمتّع بحقّ الحريّة في الكتابة، وكيف تتغيّر مادة الواقع ويبقى الفكر حبيس مادة الماضي، ما قدرة البحث أن يتسلل بوضوح عبر مراوغات يفرضها نهج الاستمرار؛ أيّ منفعة في بحث مفروض النتائج، وآخر مرفوض النتائج، شتّان بين (فرض، ورفض)، لا يُؤذن لك البحث إلاّ في نطاقات محدّدة، ويُعذر عليك الخروج عنها أو التصريح بما وجدت من نتائج مخالفة لما درج عليه القائمون على النطاقات، وهذا التنبيه متعدّد الأطراف:(العائلة، المدرسة، العمل، السلطة)؛ ثمّ إن زاد هامش الحريّات، فأيّ جدوى من كتابةٍ وقولٍ إذا كان الفعل والعمل دونهما.
- الأملُ مهلكة الروح في محلّ اليأس، وليس أعنف من أملٍ أعمى يفرط المرء فيه، ثمّ إذ به يأخذ صاحبه إلى عجز من الحزن لا يعرف رأسه من أقدامه.
ربّما هذا الكمّ الهائل من التراجعات الإنسانيّة، حينما ترى الدول العربيّة غارقة في دماء التطرّف، أو حينما تجد –هاهنا والآن- الناس قد ذهبوا أعداداً غفيرة في خوض حروب دونكيشوتيّة عبثيّة وطائفيّة في ملهاة مواقع التواصل الاجتماعي بإدمانٍ لم يعد غريباً على السعوديين بعد تجارب عدّة، تجعلنا محلّ بحث فيما يخصّ التطرّف بتعلّقنا بالأشياء دون عقلنة، وبحاجة إلى مختصّين يدرسون ما لدينا من ظواهر لا يمكن رصدها من مراقب غير متخصّص في علم نفس الفرد، وعلم النفس الجماهيري والاجتماعي، كيف يهاجم كتّاب سعوديين إيران بأنّها دولة عدوّ على أساس مذهبي وليس على أساس تدخّلاتها التخريبيّة وأطماعها التوسّعية والنفوذيّة، ألا يعي هؤلاء خطورة هكذا خطاب على المكوّنين الرئيسين لهذه البلاد؟ إلى أين نحن متّجهين بهكذا خطابات لا تفرّق بين التاريخ والواقع بين المادة والخيال؟؛ ومرّة أخرى أتساءل: ما الذي يجعل شاباّ سعودياً يغامرإلى بلادٍ لا يعرفها وليس بينه وبين أهلها ثأراً فيَقتلُ ويُقتلُ؟ وكيف تفهم من أكاديميّ يناظر عن حقوق الإنسان والحضارة ثمّ إذ به يتمنّى أن يتدخّل الأمريكان ضرباً في سوريّا، ويظلّ يرى الدم في طرف دون آخر؟ وتراه في كلّ تغريداته يطالب بالمزيد من العنف والإقصاء؟
لماذا تراهم متعطّشين للدماء التي تسقط في دول الجوار، ويعدّون أرقام الضحايا، بينما هم على مركازٍ أو أريكة أو سرير أو مقهى ينعمون ويرفسون في تيهٍ فضائي وواقعي، ولا يلتفتون إلى عصمة النفس وحرمة الدماء؟ منذ متى صار الدم رخيصاً إلى هذا الحدّ؟ولماذا تقوم الدنيا وتقعد في إسرائيل على موت إسرائيليّ أو خطفٍ مجنّد؟ بينما يساق الإنسان العربي جماعات للموت، ولا عزاءات تقام للموتى، ولا أحد يعرف أسماءهم، يساقون على أصوات: (الله أكبر)، يردّدها القاتل وأهل القتيل، والميّت واحدٌ وإن اختلفت تسميات مقتله: (الضحيّة، الشهيد، العميل، الخائن، المتآمر، الثائر، المتمرّد، المنشقّ، الوطني، الحرّ، المتطرّف..) إلى آخر تلك الألقاب التي لن تغيّر شيئاً من حالة موته العبثيّة؛ هؤلاء الضحايا العرب - على جميع أعمارهم - يموتون دون عزاء، يفقدون أسماءهم، يتحوّلون إلى أعداد في قنوات العرب.أما من نهاية لهذا الدم؟
(ج)
أين السعادة؟ أفي تفاصيل الحياة أمْ في العموميّات؟
تُعمي عموميّات الحياة المرءَ حين يحمّل نفسه مسؤوليّة أخلاقيّة في ضرورة المشاركة بحلّها، أو طرح رأي حولها، ولعلّه يبقى في حدود المقبول عندي، لطالما على المرء أن يؤدّي شهادة في العموميّات في محطّات مفصليّة من حياته، ولكن أن تصبح حياته وسعادته وعصمة نفسه ودمه رهن تلك الشهادة، فأيّ قيمة للفكر إذا لم تكن عصمة النفس على رأسه، ولماذا وصل الإنسان في الغرب إلى السعادة التي ينشغل بها يوميّاً في تفاصيلها، وأنت هنا مأزوم بجدل ملَّ منكَ وملَلْتَ منه؟
لا أريد أن أكون جزءاً من هذا الجدل الأعمى العاجز ولا أحسن الخروج منه؛ بعض ما أفكّر فيه زفرتُهُ - ها هنا والآن - وبعضٌ تعصمني النفس.
- الكتمانُ عصمةٌ، والفصحُ مقصلةٌ في هذا الغمر العربي.
- ما أضيق هذا الروح حتّى يتحمّل ثقل الكتمان، وما أوهن النفس على حملان الفصح.