Saturday 03/05/2014 Issue 436 السبت 4 ,رجب 1435 العدد

قراءة غير تبجيلية ...

الشريعة في السودان : التطبيق والنتائج (1-4)

يسعدني أن أقدم للقراء العرب هنا ترجمتي لبحث بروفيسور غابرييل آر. واربر، المولود عام 1927 في برلين بألمانيا والأستاذ الفخري حالياً لتاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة حيفا. وهو حالياً أهم باحث غير عربي متخصص في الشأن السوداني في العالم ويقدم في هذه الدراسة الموجزة والنادرة قراءة غير تبجيلية لتجربة الرئيس السوداني جعفر النميري رحمه الله الفاشلة - بحسب وصف واربر - لتطبيق الشريعة في السودان. ونشرت هذه الدراسة المرجعية الشهيرة في «المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط» (INJMES) وهي كما هو معروف أهم فصلية إنكليزية محكمة في العالم للأبحاث المتعلقة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجالي السياسة والتاريخ.

* جعفر النميري: سيرة موجزة

(بقلم د. حمد العيسى)

جعفر محمد النميري (1930- 2009) هو الرئيس الخامس لجمهورية السودان (1969 – 1985). التحق بالكلية الحربية السودانية بأم درمان عام 1950. تخرج فيها عام 1952، وحصل على الماجستير في العلوم العسكرية من «كلية الجيش والأركان العامة» في فورت ليفنورث بأركنساس، الولايات المتحدة الأميركية سنة 1966. نفذ بنجاح مع بعض الضباط في 25 مايو 1969 انقلاباً عسكرياً يسارياً علمانياً حيث استولت القوات المسلحة السودانية على السلطة في البلاد، وأصبح نميري رئيسا لمجلس قيادة الثورة الذي رقاه في اليوم ذاته إلى رتبة لواء! (ثم لاحقا إلى رتبة فيلد مارشال أي مشير!!).

سافر نميري في رحلة علاج إلى واشنطن في الأسبوع الأخير من مارس عام 1985، وخلال غيابه استطاع خصومه حشد النقابات والجمعيات والأحزاب وتحريض الناس للخروج إلى الشوارع في مظاهرات صاخبة وانتفاضة شعبية احتجاجا على سياساته الداخلية التي أدت لتدهور الأحوال الاقتصادية ما جعل وزير الدفاع آنذاك، الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، يعلن انحياز القوات المسلحة للشعب. وبينما كان نميري في الجو عائداً من الولايات المتحدة إلى الخرطوم ليقمع تلك الانتفاضة ويستعيد السلطة تلقى نصيحة من مستشاريه بتغيير وجهته إلى القاهرة ليحصل على لجوء سياسي، وفعل ذلك ولعله أفضل قرار اتخذه في حياته.

تميز حكمه ببعض الأحداث الجسيمة وكذلك الكوارث مثل (أ) محاولة «غير ناجحة» لتطبيق الشريعة فشلت بامتياز بحسب واربر، و(ب) انهيار الاقتصاد السوداني، و(ج) زيادة شدة الاضطرابات في الجنوب بسبب تطبيق الشريعة على النصارى والوثنيين ما أدى لاحقا لإنفصال جنوب السودان، و(د) خسارة الجنية السوداني 80% من قيمته، و(هـ) إعدام المهندس المفكر المسلم الأستاذ محمود محمد طه بتهمة الردة عن الإسلام بينما كان أصل الخلاف سياسيا وتحديدا معارضة طه المسار الإسلاموي لنميري ومحاولته تطبيق الشريعة قسرا على السودان بدون تدرج ولا وضع أي اعتبار للتعددية الدينية في السودان، مع العلم بوجود شطحات فكرية لطه، وأخيراً (و) تسهيل هجرة يهود الفلاشا لإسرائيل.

وبالنسبة للمهندس والمفكر المسلم محمود محمد طه، فصحيح أن له شطحات فكرية ولكنها اجتهادات قد لا تخرجه من الملة، ومع الأسف أعدمه نميري بتهمة الردة ولكن غالبا بسبب معارضته التطبيق «الفوري» للشريعة بدون تدرج ولا مراعاة للتعددية الدينية في السودان. وكان طه قد قال عام 1977 النبوءة التالية عن جماعة الإخوان المسلمين في السودان:

«من الأفضل للشعب السوداني أن يمر بتجربة حكم جماعة الهوس الديني.. وسوف تكون تجربة مفيدة للغاية – إذ إنها بلا شك سوف تكشف مدى زيف شعارات هذه الجماعة.. وسوف تسيطر هذه الجماعة على السودان سياسيا واقتصاديا حتى لو بالوسائل العسكرية – وسوف تذيق الشعب الأمرين. وسوف يدخلون البلاد في فتنة تحيل نهارها إلي ليل – وسوف تنتهي بهم فيما بينهم – وسوف يقتلعون من ارض السودان اقتلاعاً» ا.هـ.

انتهى التقديم والآن مع نص الدراسة ونلفت النظر إلى أن هوامش المؤلف ستنشر في الحلقة الأخيرة:

* الشريعة في السودان:

التطبيق والنتائج (1983-1989)

في سبتمبر 1983، أعلن الرئيس جعفر النميري رسمياً عن بدء تطبيق الشريعة في السودان. وبدت الخطوة الأولى كحركة مسرحية حيث شملت إهراق آلاف زجاجات الخمرة والمشروبات الكحولية الأخرى، التي قدرت قيمتها بأكثر من 300 مليون جنيه سوداني، في نهر النيل. وتلا ذلك تنفيذ الحدود، التي تنطوي على بتر اليد لجريمة السرقة وعقوبات أخرى منصوص عليها في الشريعة الإسلامية. وفي فبراير ومارس عام 1984، تم تنفيذ ما يسمى بـ «الاقتصاد الإسلامي» مع إلغاء الفائدة على المعاملات الداخلية واستبدال ضريبة الدخل والضرائب الأخرى بالزكاة المقررة دينياً. وفي يونيو من العام نفسه، أمر النميري جميع ضباطه بأداء قسم الولاء والبيعة له شخصياً كـ «إمام» للأمة السودانية. هذه البيعة جرت بعد 103 أعوام من تلقي محمد أحمد بن عبد الله بيعة من أبكار المهدية، وهم أول أتباع المهدي السوداني. وأخيراً، في 18 يناير 1985، أعدم النميري زعيم الإخوان الجمهوريين (المهندس والمفكر) محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري البالغ من العمر 76 عاماً بتهمة الردة بالرغم من المناشدات المتكررة للرحمة سواء من داخل العالم الإسلامي ومن المجتمع الدولي. وفي 6 أبريل 1985، تم خلع النميري بينما كان في طريقه من واشنطن إلى القاهرة.

وبالرغم من توافر العديد من الحجج لخلعه، إلا أن حجة قيامه بتطبيق الشريعة الإسلامية كانت تلوح بقوة في الأفق. لقد تم إنهاء نظام النميري عبر ائتلاف واسع من النقابات العمالية، والمهنيين، والمنظمات الطلابية، والجماعات السياسية. ولم يختلف في كثير من النواحي عن سقوط نظام الجنرال إبراهيم عبود، الذي خلع في أكتوبر 1964، عبر انتفاضة مدنية قادتها رابطات المهنيين والنقابات العمالية. وفي كلا الحالتين (أكتوبر 1964، وأبريل 1985) رفض الجيش التدخل بمجرد أن أدرك أن استخدام القوة سيؤدي إلى حمام دم. ولكن هنا، ينتهي التماثل لأنه في عام 1964 عاد ضباط الجيش إلى ثكناتهم، بينما بقي الجيش بعد انتفاضة أبريل 1985، مسيطراً على السياسة السودانية لمدة عام، بمباركة ضمنية من الطائفتين الدينيتين الأكثر شعبية في السودان: الأنصار (النيو مهدية) والختمية الصوفيتين.

وخلال الـ 16 عاماً التي قضاها النميري ورفاقه في السلطة، دار السودان دائرة كاملة ليعود إلى نقطة البداية الطائفية؛ فعندما وصل الضباط الأحرار إلى السلطة بقيادة النميري في مايو 1969، لم يكونوا يتفقون إلا على عدد قليل من القضايا وأهمها عزمهم على «إلغاء» الطائفية، وأدى ذلك إلى مذبحة الأنصار في مارس 1970 ومصادرة جميع ممتلكات المهدية في الأشهر التالية. وبالرغم من أراض تابعة للختمية صودرت في يوليو عام 1970، إلا أن الختمية تم التعامل معهم بقسوة أقل من منافسيهم الأنصار. وجاءت نهاية ما سمي بـ «المرحلة الراديكالية التقدمية»، عقب انقلاب شيوعي فاشل في يوليو 1971 ليحل محلها فترة من الإصلاحات الطفيفة. وبعد إعدام الزعماء الشيوعيين، قام النميري بزيارة مكة المكرمة لأداء فريضة الحج في أواخر عام 1971، وخلال توقفه في جدة، اجتمع مع قادة الإخوان المسلمين الذين فروا من السودان. هذه المحاولة الأولى للمصالحة مع الإسلامويين رفضها مستشارو النميري عقب عودته إلى الخرطوم. وأثناء وجوده في المملكة العربية السعودية، دخل النميري في مناقشات مع الملك فيصل بشأن حتمية قيام مرحلة إسلامية جديدة في السياسة السودانية. وبالرغم من أنه لم يكن هناك متابعة فورية في ما يتعلق بعودة جماعة الإخوان المسلمين إلى النشاط السياسي، إلا أن تلك الاجتماعات مهدت الطريق لدستور مايو 1973 الجديد.

ووفقاً لتقرير منشور، وعد النميري الملك فيصل أن الدستور الجديد سيحول السودان إلى دولة إسلامية مثالية، بالرغم من معارضة بعض أقرب مستشاريه. ولكن نسخة الدستور المعدلة التي تمت الموافقة عليها في النهاية لم تُرضِ السعوديين، وكان على السودان المفلس مالياً أن يحاول النجاة من دون الدعم المالي الذي وعد به الملك فيصل. وبعد سبتمبر 1983، اتضحت فجو ة أيديولوجية بين نميريين (مثنى نميري): (أ) الزعيم اليساري العلماني لثورة مايو عام 1969 من جهة و(ب) «الإمام» النميري مطبق الشريعة والمطالب بالبيعة من أتباعه من جهة أخرى(1).

* المسار الإسلامي

إذا فحص المرء «النهج الإسلامي» الذي ادعاه النميري – والذي بدأ بالمصالحة الوطنية في عام 1977 وانتهى باعتقال رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي في سبتمبر 1983 واعتقال زعيم الإخوان المسلمين حسن الترابي في مارس 1985 – فإنه سيدهش من الفشل الكامل له، حتى بين مؤيديه الطبيعيين مثل طائفة الأنصار. وقد وُصفت المعتقدات والسياسات الإسلامية للنميري في ثلاثة كتب، اثنان منهما من «تأليفه». الأول، «النهج الإسلامي لماذا؟» ونشر في القاهرة في عام 1980. ووصف أسباب تحول النميري من التيار القومي اليساري في السنوات الأولى من حكمه إلى التقيد الصارم بالإسلام في منتصف السبعينيات. والكتاب الثاني المنسوب للنميري هو بعنوان «النهج الإسلامي كيف؟» . وكان من المقرر أن ينشر في أغسطس 1983 ولكنه نشر في أبريل 1985، أي في الشهر الذي خلع فيه النميري. وكان المقصود منه توضيح كيفية تنفيذ النهج الإسلامي. الكتاب الثالث يحتوي على وقائع المؤتمر الإسلامي العالمي، الذي عقد في الخرطوم في سبتمبر 1984 م، للاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لتطبيق الشريعة وتبجيل «الإمام الأعظم» جعفر النميري. وقد نشر من قبل البرلمان السوداني تحت عنوان «عام على تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان». وفي «النهج الإسلامي لماذا؟» اعتبر النميري أن الانقلاب الشيوعي الفاشل في يوليو 1971 كان بداية تحوله نحو الإسلام بحسم. وقام بتمجيد مهدية القرن التاسع عشر ومؤسسها، محمد أحمد المهدي. وينسب كتاباً النميري لعون الشريف، أحد أقرب معاونيه خلال المرحلة الإسلاموية، أو لمحمد محجوب، مستشاره المصري وكاتب خطبه. وشاعت نكتة في الخرطوم أنه عندما قدم عون الشريف النسخة النهائية من «النهج الإسلامي» إلى النميري، كانت مساهمة الأخير الوحيدة في تأليف الكتاب هي إضافة كلمة »لماذا؟».

بل والأكثر دهشة كان موقف النميري تجاه طائفة الأنصار، أتباع المهدية المعاصرين (النيو مهدية)، وإمامهم الصادق المهدي. إذا فكر شخص بأن الأخير كان في معارضة مفتوحة لنظام النميري من البداية وحاول الإطاحة به في يوليو 1976، فإن ثناء النميري على المهدية في كتابه لا يمكن أن ينظر إليه إلا كجزء من تحول كبير في نهج النميري السياسي(2). العلاقة بين «إحياء إسلامي» والمصالحة مع «الأعداء الطائفيين» لثورة مايو 1969 ليس من قبيل المصادفة. لقد وقعت في وقت كان فيه الإسلام السياسي الراديكالي (الإسلاموية) يمضي قدماً في إيران ودول إسلامية أخرى. كما لا ينبغي التقليل من شأن ما حدث تحت حكم الرئيس أنور السادات من صعود للإخوان المسلمين والمنظمات الطلابية الإسلاموية بقوة.

يتبع في الأسبوع القادم بحول الله

ترجمة وتقديم/د. حمد العيسى - المغرب Hamad.aleisa@gmail.com