حينما يكون الشاعر مهندساً فلا تدري أيهما يسبق الآخر علمه أم مشاعره؟ وقد تدرك ذلك أكثر حينما يطغى قلبه على عقله أو العكس، ويكون كل منهما يغذي الآخر ويكمل بعضهما البعض، وإذا ما تفوقتْ المشاعر على العلم! فتكون هندسة القلب قد رسمت خريطة طريق لموهبة فذة قلما تجد في عالمنا من يتمتع بها! ولا شك أنك تعي ذلك وتدركه وتحسّه عندما ترى كلماته تنسلّ من بين يديه وعقله وقلبه وكل جوارحه فيشترك في الكلمة شعور وإحساس وعقل وإدراك بسهولةٍ ممتنعة جميلة راقية ولكنها صعبة المنال لا تتأتّى إلا من أُوتي حظا عظيما!! فتأتي حروفه وكلماته متدفقة منسابة انسياب الماء العذب من الجداول الخلّابة بطبيعة رقراقة هينة ليّنة مطواعة لا يعيقها عائق فتتدفق لتسقي قلوباً عطاشا وتحفر أخاديد تسير على أثرها الأباطح لكي تبعث الحياة في زمن قلّ فيه خدّام آلهة الشعر كما يقول اليونانيون! قال عنه الدكتور غازي القصيبي رحمه الله أنه شاعرٌ استثنائي!! يشق طريقه نحو القمة وقد وصل إليها منذ زمن! ولو نتتبع ماذا قالوا عنه؟ لاستفاض بنا المقام! وهو شاعر لكل المناسبات إن أردته بين الجمهور كان وسطهم دون الاسفاف وإن تخيرته نخبوياً فهو كذلك! متواضعاً دون ترفّع! خاض التجربة الشعرية بأنواعها من شعر التفعيلة الحر حتى الوزن والقافية! أثّرت التربية الدينية في اتجاهه بادئ الأمر وهذا قالب المجتمع الإحسائي بشكل عام، وكذلك حب أرض النخيل وعشق طبيعتها كان لها نصيب أيضاً في شعره وهو امتداد للوطن الكبير فاتسمت بالعاطفة الحقيقية التي جاوزها إلى ما بعد الجنادرية! ولو جربته في كل ذلك وأكثر لرأيت ثمَّ رأيت شاعراً يركب الصعب حين لا يقدر أن يركبه أي شاعر!! يقول في الملك عبدالله في (حكاية ملهم):
يا حاملاً بالعز ملء ثيابه
صقراً تضيق بحبسه الأزرارُ
ما خنتَ صقّار الجزيرة حينما
ربّاك فوق يمينه صقّارُ
لولا أبوك لقلتُ قولةَ واثقٍ
هيهات يسخُ مثلك التكرارُ!
ويحق لك أن تحتار في جمال القصيدة وروعتها من عنايته باللفظ وتخيره له أو بالمعنى الذي اُهتدي إليه واختياره الموفق للصقر الطائر الذي يُعد في الجزيرة من الجوارح الكريمة والرفيعة المنزلة عند من يعرف ومن لا يعرف! بل عند العالم ككل! (ويا حاملاً بالعز ملء ثيابه) إيحاء تصويري جميل بأنه كاملٌ في صفاته وأفعاله! ثم إنه جعل التكرار يسخ أي لا يبخل بنماذج تاريخية ولكنه لا يقدر أن يكرر شخصك وهذا غاية المدح والثناء ، وهو في ذلك يجري في كل قصائده أيضاً في اختيار اللفظ بعناية فائقة منقح له ترف في استحضاره موفق في استخدامه! كقوله أيضاً في ما وراء حنجرة المغني:
على السهول التي تمتد في لغتي
مازال ينمو معي عنقود موهبتي
بضع وعشرون شدّت رحلها وأنا
أنا المعتق في إبريق تجربتي
والأحجيات بحجم العمر توثقني
في سكرة البحث عن مفتاح أجوبةِ
في صحة الشعر ألوي من زجاجته
جيداً وأسكب تشبيهي وتوريتي
من أجل الحفاة العابرين على
دروب الحياة سأمشي دون أحذيتي
ولا شك أنه قد سكب تشبيهه وتوريته وكل ألوان البديع والبيان بشكل نسقي بحيث تؤدي كل كلمة وجملة دورها كما أراد ببراعة لتكون قصيدة متكاملة البناء، وأنظر في تكرار الضمير (أنا.. أنا) وكأنك تقرأ الثانية غير معادة لامتزاجها بالأولى بسرعة لافتة دون ثقل أو معاضلة أو تداخل! فهي ليست حشوا لإقامة الوزن وإنما للتأكيد المفترض!
وجمال الأبيات يكتمل بالبيت الأخير وروعته ففيه تورية وكناية واستعارة وجناس! ومصراعان يحتملان ذلك فلا شك هو تميز فريد!! ومعناه يضفي إليه تواضعا جما وتفوقا!
أما الغموض فهو قليل في شعره وهذه عادة الشعراء في وقتنا إلا من أراد التكلّف! ولكن لا يخلو شاعرنا منه وهو لطيف يحتمل أكثر من معنى يقول في قصيدته كي لا يميل الكوكب:
زنداك ميزان بثقلهما
يزن المدار الغرب والشرق
فالثقل هنا يحتمل عدة أوجه قد يلتبس على القارئ وحيث أراد المعنى قد يصيبه ويخطأه
ولعلّ المهندس الشاعر مولع بالزنود فهو يذكره أكثر من مرة هنا وفي قصيدة أخرى!
على أن الغموض المقتصد ليس قبيحاً وهو مطلوب لا شك! كوضوحه الجلي الذي تجده متمرساً متترساً في كل قصائده يتراوح بين صعوبة وسهولة كأنه يحفر في صخر وكأنه يغرف من بحر بحسب المناسبة وغرضها وجو القصيدة وبحرها! وقد جمع الموهبة والخبرة فكانت الميكانيكا قد أظهرت براعة يراع ترسم حروفاً بريشة فنان متقن قد لا يكون هذا زمانه! وإنما أخطأه بقدر فامتزج فيه عبق الماضي وحداثة العصر! وكأنه كما قال دعبل في خلود الشعر:
يموتُ ردي الشعرِ من قبل أهله
وجيّده يبقى وإن مات قائله
ولفن المعارضات الشعرية نصيب وهذا نراه قديماً وحديثاً ولكن قليل من يوفق فيه لأن المعارضة دائماً تأتي من صغير بالنسبة إلى كبير فإن كان متمكناً متميزا شُبّه إليك فكانا كواحدٍ وهاهو في بعض قصائده الدينية يعارض الجواهري في عينيته حملت جنازة عقلي معي:
حملت جنازة عقلي معي
وجئتك في عاشق لا يعي
أحسّك ميزان ما أدعيه
إذا كان في الله ما أدعي
فلو خلطتها بقصيدة الجواهري (فداءً لمثواك) لما اهتديتَ إلى أيّ الشاعرين تنسبها!!
وربما يدخل ذلك في باب الرثاء فجلّ قصائده الدينية هي رثاء ممزوجة بمدح في آل البيت
وأراه ينحو نحو المتنبي في شعاراته الدينية وتجد ذلك التشابه بحيث لا يطغى المصطلح الديني كثيراً وإن لم يكن يحمل الصفة الدينية المعروفة ولكن التدين له من مضغة القلب قطعة لا يستهان بها ولو الشيء اليسير! وهذا أكسبه خبرة طويلة وتمرس باقتدار جعله يرثي كثيرا من رجالات العلم والأدب والشعر لعلاقته الوطيدة بهم كغازي القصيبي ومحمود درويش وعبدالهادي الفضلي وكثير!يقول في رثاء محمد الثبيتي:
الريح تنأى.. عزاءً أيها القصب
لن نسمع الناي بعد اليوم ينتحب
لن نسمع الخمرة ترغي وسط حنجرة
فيها يُحدث عن أسراره.. العنب
وعندما يرثي شاعرٌ شاعراً لا شك أن العاطفة تكون صادقة لأن الإحساس والمشاعر واحدة.
وإذا ما أردته في الغزل كان أبونواس حاضراً فهو يتبع أسلوبه الخمري الفني فقط فكما عاقرها أبونواس فإن الصحيّح عاقر أسلوبها الغزلي الممتع يقول في أميل نحوك:
أميل نحوك أغدو قاب أنفاسي
كما يميل نواسيّ على الكاسي
وألمح الحب في عينيك يغمز لي
فهل أُلام إذا استعجلتُ إحساسي
ملأتني بك حتى مسني خجلٌ
من فرط ما غازلتني أعين الناسِ
وكنايته عن مراقبة الناس له بالمغازلة لفتة بلاغية يستحضرها الصحيّح كثيراً في مواقع تستحق هذه المُلَح الجميلة والتي تعتبر موهبة يدركها من له حسٌّ بلاغي وشعري راق قد ألفه فلا تستعصي عليه كلما أراد استحضارها! وللغزل عزف منفرد وموسيقى يذوب فيها رقّة وتكون ألفاظه قريبة من القلب والعاطفة الرومانتيكية فتجدها أكثر سهولة وتناسباً واختلافاً عن الأغراض الأخرى. وهذه مقدرة يحكمها الغرض والمناسبة ومهارة الشاعر!! ولعلّ اللافت في شعر الصحيّح استخدامه للاستعارات بشكل رائع وجميل فهو بارع في استعاراته شغوف بها لمعرفته بقربها من الحقيقة -لشدة ملاءمة معناها لمعنى ما استيعرت له- كما يقول صاحب الوساطة يقول في قصيدته جائع يأكل أسنانه:
منذ أولى الرغائب في الحمأ الفج
تسكنني شهوة لاكتشافي
أقلّم أسئلة الشك..
قبل تصلب أظفارها في دمائي
استعارة هي أسرع إلى ذهن القارئ من واقعها لأنه يعيش حالة من الشك وفوضى من الأسئلة تحتاج إلى تهذيب وتنظيم لذلك استعار التقليم التي أقرب إلى فهم القارئ بالنسبة للتشذيب! وهو يجري في ذلك بسخاء شديد كاستدراكاته السريعة دون إخلال بموسيقى البيت وقطعه عن سياقه:
حين تعثرت في سلة من حكايا الصغار
تساقطت ... أو قل تساقط بعضي
أو قل .. عودة بعد انقطاع والتفاتة جميلة بسرعة بديهة واستدراك مقصود غير مخل فهذا وغيره ليس فيه من الرخاوة والفتور ما يبطئ البيت فيسقط القصيدة من حسابات التميز!
إن كان هناك من يستحق شاعر الأفلاك فلا أعتقد إنه يخطئ الصحيّح حيث إنه ما طرق باباً من أبواب الشعر إلا وأبدع وأجاد وتميز باقتدار ولذلك لم تغب عنه الكثير من جوائز المسابقات الشعرية في الخليج والعالم العربي، ولا شك أنك إذا قرأت قصائده قد لا تفرق بينها في تحديد نظمها بسني عمره فتجدها كلاًّ واحداً بنسيج واحد باختلافات يسيرة، وهذا انفراد صعب لا يكون لأي شاعر!! فربما خبأه طرفة بن العبد في جيوب الزمن وأخطأه ابن المقرب حتى لا يزاحمه فكنّا معه على موعد قد قُدر أن تحظى هجر بثالث ثلاثة تحتفي العرب بهم في محافلها فكان كالقلادة في جيد الحسناء تفخر وتتباهى به بلد النخيل بل يفخر به الوطن إذا عُدت رجالها.