حمد العسعوس الخالدي
85 صفحة من المتوسط
لم تكن البداية ولم تكن النهاية كرسائله الشعر.. اخترتها وسطاً بين فصلين حيث البحر.. والفجر.. البحر بأمواجه واشباحه.. والفجر بتباشيره .. ومولد صباحه .. ترى هل وفقت؟.. وهل جاءت خواطر شاعرنا العسعوس كما أحسبها كاشفة لذلك اللغز المحير بأحيائه وأعماقه.. ولذلك الفجر وقد طوى صفحة العتمة بميلاد نهار جديد ملؤه الوضوح والإبهار .. بداية قال:
أدري.. بأنك غظت يا بحر
أدري بأنك غبت يا فجر
وما دام يدري.. لنستمع إليه:
غيظ بهذا الموج تعلنه
من أمة أودى بها الغدر
وغياب فجر بات يرسمه
ليل تمطى. ما له بدر
هكذا جاء عشقه صرخة في وجه السكون والظلام، حيث الغدر والاستكانة.. وحيث السبات الذي يشبه الموت.. فلا موجة البحر ترضاه.. ولا ظلمة الليل أذن بالانحسار.. أن يفتح باب محكمة التاريخ ليحاكم ويقاضي ويرافع معلناً إدانته مسبقاً..
اكتب على الأمواج ذلتنا
وهزيمة يندى لها الكبر
اكتب لنا أهزوجة طفحت
بالحزن.. يبكي حولها الشعر
اكتب لنا يا بحر قصتنا
كيف استقام لجدنا الأمر؟
البحر لا يكتب يا شاعرنا وإنما يسجّل.. نحن الذين نملي واقعنا ومواقعنا.. ونرسمه على لوحة الذاكرة التاريخية ويقرأه غيرنا كما رصدناه.. وكما أمليناه دون زيادة أو نقص.. بحرنا يا عزيزي ينطلق من الذات والصفات، والحركات.. بل وحتى السكنات.. نهارنا نصنعه باليقظة.. وليلنا نبدده بالشموع أو بضوء النجوم.. أو إشراقة البدر على قدر مقدرتنا على صنع الحياة. القصيدة موحية بدلالاتها.. اختصرها بهذا البيت الجميل:
بقصيدتي شطر يسافر بي
ويصدني بقصيدتي شطر
أتجاوز بعض مقطوعاتها لأقف معه شاعراً يمتطي صهوة حصانه مشهراً سيفه.. رافعاً عقيرة شعره مخاطباً سوق عكاظ بقصيدته العصماء.
من سدير شددت سرج حصاني
وتقلّدت فيه سيف يماني
غمد سيفي مرصع بالثريا..
وعلى حده سهيل اليماني
من يباري ونجد رمحي وطرسي
وسناني. وخوذتي ولساني
دوحتي نجد. والجذور مجاز
ضارب في الثرى لكل المباني
ماذا بعد كل هذا التجييش.. والمبارزة.. هل أعلنها حرباً حامية الوطيس؟ أم أنه يعد لها؟ أم أنه يذكر بخاطرة التاريخ.. وما رصدته من أحداث وحوادث؟ لنستمع:
ليس فينا سعد يغيث سعيدا
ووريث (ابن الخطاب) كالبهلوان
شبت النار في العراق فعجّل
وتلظت على ربى لبنان
ذبحوا وحدة العراق فشبت
طائفياته لظى الاحتقان
إلى أن يقول:
يصبح الناس في الحروب وحوشاً
يتوارى ضميرها الإنساني
يا شاعرنا لم تعد الحكاية حكاية العراق ولبنان فحسب .. هناك سودان. وصومال. وأفغان، وباكستان .. حتى اليمن السعيد فرت منه السعادة على وقع دخان البارود ولهب القذائف. والحبل على الجرار .. يريد لنا أعداؤنا الفرقة .. والفتنة .. والانكسار .. بعد أن غاب عن واقعنا واقع الانتصار .. وإذا كنت تعاني الغربة والهزيمة واحتباس الحلم في وجدانك فإن لك رفقاء يكابدون المعاناة لأنهم لا يملكون أكثر من بيت شعر من التذكير .. ولسان حالهم يقول:
لقد أسمعت لو ناديت حياً
ولكن لا حياة لمن تنادي
تأخذنا رحلة السفر.. الجادة مجهدة في وقع خطواتها.. أكثر من محطة.. وأكثر من عنوان مررنا به مرور الكرام لأن عامل الوقت لا يسمح بالكثير من الانتظار.. استرعت الانتباه لافتة ثلاثية لليأس.. لم تكن واحدة.. ولا اثنتين، بل ثلاثاً.. واليأس واحد لا يقبل المزيد.. لننتظر مع شاعرنا ونطلب منه المزيد.
أيها النجمة الصغيرة مهلاً
فهنا كوكب هوى للمغيب
عندما كان كالثريا ائتلافاً
لم يجد من يعيذه يا حبيبتي
الحكاية فيها حب.. ومغيب.. ويأس ثلاثي.. لنتابع معاً الموقف..
هذه الليلة انتحى في مدار
ثم اصغى إلى صراخ المشيب
صفع الشيب فوده وتمادى
في بكاء.. وحسرة. ونحيب
فصحا من سباته.. وتلاشت
سكرة الحب.. والهوى.. والنسيب
لم يكن حباً.. كان حلماً تداعى على صخرة الواقع.. وقد وخط الشيب رأسه.. وغابت عن رؤاه ملامح الصبوة.. ونضارة الشباب.. إنه وقد شاب أشبه بجذع مهيأ للاحتطاب. أو بقايا نار ترمدت وتوارت على هبات الريح.. شاعرنا وقد انتهت سكرته وجاءت فكرته راح يبحث عن مخرج.. عن منقذ يأخذ بيده.. وجدها نجمة صغيرة تلمع في كبد السماء. ناداها:
أيها النجمة الصغيرة عذرا
خلصيني من الغرام الغريب
خلصيني من ورطة الحب إني
هارب. والهروب أحلى عيوبي
واتركيني صغيرتي فحرام
أن تكون حبيبة للغروب؟!
علامتا الاستفهام والتعجب لا مكان لهما.. النجمة لم تتجاهله.. وإنما ردت:
قالت النجمة الصغيرة مهلا
أيها الكوكب الذي في دروبي
لستُ من يَحْرِم الثريا سهيلا
أنت في نجد والهوى في الجنوب
شئت أم لم تشأ فأنت سميري
وأنيسي وشاعري وطبيبي
هل هذا يكفي؟ تحولت نجمته الصغيرة إلى أنثى بددت خوفه بجوهر دمع. وخطى مهرة. ونفحة طيب. ورمت ضوءها عليه منادية لا تغادر فأنت.. أنت حبيبي وأردفت قائلة من عليائها..
هكذا هكذا غرام الصبايا
حينما يفتك الهوى في القلوب
وعلى شاشة مسرح الحب الخيالي يقف المتيم ملوحاً بيده وعلى فمه أبيات ثلاثة تلخص قصة حلمه وعلمه
أيها الشامتون بي على حب ليلى
حب ليلى به تفيض جيوبي
إن ليلى شكل.. وعقل. وروح
حلقت بي أنا فلا تشمتوا بي
فاتركونا وشأننا ودعونا
نعلن الحب في زمان الحروب
حب أسطوري.. كل ما فيه جائز على مبدأ التصور الضارب في متاهات الخيال العلمي..ادع (قصيدة الخروج) و(اعتذارية للمصطفى) وأقف أمام لافتة كتب عليها (نور البصيرة) وما أحوجنا في زمن كهذا الذي نعيشه من نور بصيرة وزاد بصيرة. ماذا يقول شاعرنا المتجلي حمد العسعوس؟!
لجأت إلى ماء الحياة ونورها
فزال جفاف الروح. زال ظلامي
لجأت إلى القرآن شمساً ومورداً
فأحيا به المولى رميم عظامي
أطهر بالآيات كل جوارحي
وامسح أثامي. ولغو كلامي
على هذا المنوال يطبع شاعرنا كلماته .. ويرسم شاعرنا لوحاته الروحانية متبتلاً رافعاً كفيه إلى السماء. ومن فينا من لا يحتاج إلى الضراعة والتبتل.. وأمام محراب الله في توبة وخشوع .. شاعرنا أمسك بيديه كتاب الله، لقد رأى فيه نهج حياة .. والأمان .. والإيمان، والرفعة. ونور البصيرة. وفجر الهداية. وعطر البدايات. ومسك الختام. وفيض السماحة. وطيف السعادة. والحكمة .. هكذا استشعر الأمان وهو يمسك بالقرآن .. وقد وجد فيه.
وجدت كلام الله خير وسيلة
تلملم أشلائي وكل حطامي
وجدت كلام الله في الأمن سلوتي
وفي الخوف درعي المنتقى وحسامي
وجدت كلام الله حصناً وقلعة
ونوراً على كل الجهات أمامي
وجدت كلام الله للداء مشافياً
وللدرب نبراساً وومض غمام
كل هذا أحسه في وجدانه.. وبأعماق إيمان.. وعز على شاعرنا أن لا يخاطب غيره بما خاطب به نفسه
فيا قارئ القرآن رتل حروفه
على مسمع الدنيا هديل يمام
ويا قارئ القرآن، قاوم بعدله
جيوش فريق ظالم متعامي
ويا قارئ القرآن مزّق بنوره
سحائب ليل قادم متناهي
إلى هنا وينتهي المطاف .. وقد جنينا سوياً من حصاده القطاف .. كان شهياً .. وممتعاً .. وإلى حلقة جديدة إن كان في العمر بقية.