(ج)
ما هو التوازن المادي الوجودي؟.. ما هي المسألة؟.. ولماذا الثقافة السعودية.. و/أو الثقافات السعودية مسألة؟
الأصل في التوازن المادي - الوجودي هو ربط مكوّنات الدولة الإنسانيّة بمنافعها ومصالحها، وإزاحة أيّ تعارض قد ينشأ بسبب تعدّد مصالح المكوّنات واحتمال تداخلها، ودون إلغاء طبيعة المكوّن نفسه أو إقصاء مكوّن عن منفعة، فيكون المكوّن مسؤولاً عن نفسه عبر ثقافته ورؤيته.. وبذلك يكون التوازن المادي - الوجودي قائماً بين السلطات الثلاثة - مفصولة أو متّصلة - وبين الثقافات الدينيّة أو العرقيّة، وبين الثقافات العلميّة التحديثية.. وهذا التوازن هو البديل الحديث عن الاكتفاء بالروابط العرقية - الإثنية والدينيّة، إذ لم تعد هذه الروابط الخصوصيّة ضمانة استقرارٍ، خصوصاً في الدول التي تتمتّع بتعدّد سكّاني ثقافي وديني - مذهبي.. ولهذا فإنّ تأسيس التشريع والميثاق الوطني للدول إذا ما استند (نصّاً وتنفيذاً) على التوازن الوجودي فإنّه يزيد من قوّة الدولة في الاستفادة من طبيعة مكوّناتها، وبإحلال تشريعاتها وإجراءاتها ومناسباتها الوطنيّة فوق المجتمعات الداخليّة بأعرافها وعاداتها وتقاليدها وفوق الهويّات والأعراق.
ومنبع الجدليّة يقوم على أوزان (السياسة، الدين، العلم) وتأثيراتها على الواقع وإدارته، وجدليّة المجتمع والدولة أصلٌ في المسألة الثقافية، لطالما تورّط المثقّف بتمثيل مجتمعه بدلاً من الخروج عن الخصوصيّة الاجتماعيّة لرحابة التعدّد؛ والمجتمع عندي معرّفٌ في: (العرف، العادة، التقليد)، ونحن في السعودية لسنا مجتمعاً واحداً، بل مجتمعاتٍ عدّة، وهذه خصوصيّة تستدعي واقعية التوازن الوجودي وهي خصوصية كلّما تمّت موازنتها تسلّحت الدولة قوّة ومنعة.
من الذي يعيق الموازنة بين (السياسة، العلم، الدين)؟ وأيّ تيّار يقف ويحول دون الفصل بين هذا الأوزان بحيث لا تتأثر في عملها ومخرجاته؟.. إنّ التيار الديني - السياسي ينظر للتوازن على أنّه فقدان لمكاسبه ومصالحه الفئويّة، وهذا الظنّ محلّه الإقصائيّة التي ينطلق منها، ويظنّ المكوّنات الأخرى تشاركه المبدأ عينه؛ وهنا تظهر عين الجدليّة: هل هو توازن أم إلغاء؟.. كيف يمكن للثقافة في خطابها وتفاوضها مع السلطة: أن تحيّد تأويلات رجال الدين عن التأثير في صناعة القرار تحت مدنيّة الدولة ثم لا تتّهم بأنها إقصائيّة أو لا تخلّ بالتوازن المادي؟.. هذه هي الجدليّة: أنّ التوازن كي يقوم بين مكوّنات الدولة فإنها ترفع الامتيازات عن طبقة معيّنة، وتتجاوز الرؤية الأحادية التي تفرضها على باقي المكوّنات، وليس عليك إقصاء أيّ مكوّن اجتماعياً - اقتصادياً - دينيّاً.
إنّ وجود توازن مادي - وجودي بين مكوّنات أيّ دولة يعصمها، كما أنّ احتمالات نشوء إشكالية الأقليات تتلاشى، حيث إن مفهوم الأقليّات العرقيّة والمذهبيّة يتمدّد وينتشر في ظلّ اختلالٍ في التوازن المادي؛
لماذا مسألة الأقليّات وإشكاليّاتها لا تشكّل خطراً في الدول الغربيّة على اختلاف حالات الرصد: (كندا، أستراليا، أمريكا، أوروبا..) بينما مخاطرها تزداد في الدول العربيّة وقد فتكت تقسيماً في عددٍ منها؟.. أزعم أنّ عاملَ غياب التوازن الوجودي، وعاملَ قيامة الدولة على مفاهيم عرقيّة - إثنية ودينيّة مسؤولان عن نشوء مخاطر الأقليات الاجتماعيّة، والتي ما كانت لتوجد لولا خلق الأكثريّات الاجتماعيّة والاعتماد عليها سياسياً، واختزال بناء الدولة ومصالحها ومنافعها على الأكثريات الاجتماعيّة منفردة أو أقليات اجتماعيّة حاكمة؛ وهذا السبب واضح في تقسيم السودان، العراق، والتيه اللبناني عن مفهوم الدولة، ومخاطر الوحدة اليمنيّة الضعيفة وحلول الفيدراليّة التي تُؤكّد على التنوّع والتعدّد ولكنّها في الوقت عينه تؤكّد على استحالة قدرة الواقع اليمني على إيجاد صياغة لصناعة توازن وجودي - مادي، نظراً لغياب ثقافة التوازن المادي - الوجودي على مستوى التشريع والتأهيل.
(د)
أضبطُ دلالة المسألة في هذا الموضوع على أنّها: (مطالبة معلّقة، لم تحقّق أهدافها)؛ وأسباب كونها معلّقة عائد إلى غياب الاتفاق العريض الأوّلي الذي يُفصح عمّا يريده المثقّف، وضبابيّة الخطاب، وفقدانه القوّة في الواقع؛ فالمسألة الثقافية السعودية ليست معلّقة وحسب، بل هي حال بين إخفاء وظهور، فهي ليست مخفيّة كي تُمحى وتزول، كما أنّها ليست ظاهرة ظهور القوّة كي تفرض نفسها رقماً صعباً في أيّ مشروع وطنيّ إصلاحيّ.. ولعلّ الاستمراريّة الثقافيّة لثلاثة أجيال متعاقبة من المثقّفين أبقت المسألة حيّة وظاهرة على البينيّة وهو أقصى أثر إيجابي تحقّق واقعيّاً للتراكمات الثقافيّة، بينما حالة الإخفاء وهو ما يجب علينا الاعتراف به،كونها حال لم تفرض نفسها طرفاً في معادلة التوازن، وهو الإخفاق المتراكم في إيصال المسألة إلى مرحلة الإظهار كضرورة في المشروع الوطني، بحيث تصبح الثقافة بحدّ ذاتها مسألة واقعية معلّقة يتوجّب حلّها كضرورة لأجل توازن وجودي، بل بقيت - بالكاد - مسألة غير ميّتة - لكنّها ليست حيّة أيضاً.. ولعلّ أحداث عام 1979 (الداخليّة: حركة جهيمان، والخارجيّة: الثورة الإيرانيّة) أفقدت الثقافة بوصلتها الداخليّة تماماً (صدمة استيراد الثقافة والقضايا الخارجيّة وضعفها في مواجهة القضايا الداخلية - نتوسّع في هذه الحال في جزء آخر من الموضوع)، وتحوّلت إلى حالة شخصانيّة، أحاديّة، فما ظهر منها على السطح أراد أو أُريد له عبر الفوضى المادية الواقعية أن يكون طرفاً في معادلة تقابليّة مع الطرف الديني، وليس طرفاً في معادلة متعدّدة الأطراف: (السلطة، التيار الديني، التعليم، الثقافة)، وهو ما أفسد استقلالية الثقافة نهائيّاً وجعلها مرهونة للتقابليّة الضدّية مع شركائها في الوطن، وتحويلها من سعة الخروج والتعدّدية إلى ضيق التقابليّة الإقصائيّة، فبدا أنّها حال ضدّ التيار الديني، وما زالت تحت هذه التأثيرات تفصل بين التيّار الديني والمستفيدين من ورائه؛ وحينما أقول إنّ الثقافة السعودية لم تقدّم ما نادت به على تنوّع نداءاتها (الفرديّة)، فذلك نظراً لعوامل: (غياب الهدف أو غيابته، التقية الثقافية والحريّة) ولأنّها أساساً انطلقت من اجتهادات (فرديّة) مقابل مواجهات (كيانيّة - تجمّعية)، وهنا أساس العقدة في التفاوض الثقافي بين حظر التجمّع الثقافي الأهلي أو تقنينه، وإباحة التجمّع الديني وغضّ النظر عن فلتانه أحياناً، وشتّان بين منظرات فرديّة - فرديّة وبين مناظرات فرديّة -جماعيّة ومدى تأثير كلا الحالتين على استغلال فوضى الواقع ونظامه.. (ولعلّ لهذه العقدة أثرها المباشر في توزير الثقافة في مرحلة لاحقة).
(هـ)
هل المسألة الثقافيّة السعودية متوازنة أم متعارضة؟
من الضروري هنا ضبط التفريق بين المسألة المتوازنة وبين المسألة المتعارضة؛ فهناك مسألة لا تكون متعارضة لأنّها لا تنتج في حلّها مسألة أخرى بل تحدث توازناً بين صاحب المسألة وصاحب الحلّ؛ وهناك مسألة متعارضة: حينما تكون المطالبة متداخلة في حلّها مع مطالبة أخرى محقّقة، بحيث إنّك إن حقّقت هذه النتيجة خلقت في المقابل مسألةً ما كانت لتنشأ لولا حلّ المسألة الأولى.. فالمسألة المتعارضة واقعة في تداخل مسألتين أو أكثر، ممّا يجعل المسألة عينها إشكاليّة: أو هي تداخل مسألة تؤثر في تغيير واقع بشكلٍ يُنشئ مسألة واقعية جديدة.. وتمثيلاً: فإنّ المسألة المذهبيّة الشيعيّة أو الإسماعيليّة في السعودية مثلاً: هي مسألة توازنيّة وليست تعارضيّة، ذلك أن تحقيق مطالبها أو حلّ المسألة المذهبيّة لا يتداخل ويؤدّي إلى إنشاء مسألة سنيّة.
ولذلك فإنّ معرفة المسألة الثقافيّة السعودية كونها توازنيّة أم تعارضيّة يعتمد على موقفك من الثقافة: هل نحن نريد دخول الثقافة كضلع في المعادلة التوازنيّة؟.. فتلك مسألة لا تلغي الضلع الديني! هل نحن نريد دخول الثقافة كبديل عن الوزن الديني - السياسي؟.. فتلك المسألة تعارضيّة! ولكن في الحالتين: فإن تحقيق المسألة الثقافية السعودية يفضي إلى تغيير واقع الديني - السياسي وحجم تأثيراته في عملية صناعة القرار الداخلي، ويفسح مجالاً أوسع للعلم والمعرفة للتشارك في التأثير على صناعة القرارات المحليّة كما هي قراراتنا الخارجيّة، وشيءٌ من هذا يجعل المسألة إشكاليّة لأنها متعارضة مع جزء من الواقع ومصالحه الفئويّة، وحلّ المسألة يؤدّي إلى تبدّل المصالح، من هنا نفهم أسباب التطرّف الظاهرة في مواجهة المسألة الثقافيّة وليس للأسباب التي يتداولونها: (التغريب، الوضعيّة، المدنيّة)، لكن الواقع أيضاً وقوّة الضرورة تدفع أكثر لظهور الثقافة كحال يقابل التأويل الديني- السياسي وإحلاله في عقول الناس بديلاً عن الدولة والثقافة، وأحسب أنّ توزير الثقافة كان جزءاً من تصوّر السلطة لحل المسألة بطرقٍ لا تتعارض مع الواقع القائم على حساسيّات التقارب الديني - السياسي من السلطة.