تناولنا في الجزأين السابقين من هذه السلسلة بدايات ظهور مصطلح «الفلسفة»، وتعريفاته ودلائله المختلفة، وأوائل المتفلسفين في تاريخ البشرية، والعقبات التي تعيق البعض أثناء سيرهم نحو الفلسفة.
وأحاول في هذا الجزء الإجابة عن هذا السؤال الذي لا يقلّ أهمية عن أهمية ما طُرح قبله:
ما الدافع إلى الفلسفة، وماذا نستفيد من التفلسف؟!
أو بصياغة أخرى:
هل الفلسفة ضرورية لنا؟ هل نحن بحاجة حقيقية إليها، أم أنها -كما يتوهم البعض- الخواء والهراء والافتراء والضلال والانحراف والهرطقة والجنون والتهوّك والزيغ والاضطراب، والشذوذ الفكري الذي لا يسير في طريقه إلا الزنادقة؛ الذين يجب أن يُطاف بهم على العشائر وأن يضربوا بالنعال والجريد؟!
يخرج الواحد منّا من بطن أمه، فتبدأ مع صرخاته الأولى قصة الذهول الكبير الذي يتصاعد تدريجيًا ويسير معه إلى نهاية حياته.. إنها حكايات من الدهشات والحيرات والاستفهامات والتعجّبات والانبهارات الضخمة المتتابعة الخالقة للتفلسف، الصانعة للنظرات والمذاهب والتوجهات الفلسفية منذ القدم.
كلما تقدّم عمر الإنسان وزاد وعيه وقدرته على الربط والتحليل زادت مع ذلك أعداد صفحات روايات التساؤلات الكبرى التي تعصف بعقله.. ما هذا؟ ما هذه؟ كيف حصل هذا؟ لماذا هذه هكذا؟ أين أنا؟! من أين جاء هذا وإلى أين ستنتهي هذه؟! هل هذا هكذا كما قالوا وكتبوا أم أن حقيقته مختلفة؟ من قال هذا ومن فعل هذا ومتى حدث هذا؟ ما الفائدة من هذه، ولماذا نقول أو نفعل هذا؟ في أيّ حالة كانت هذه، وإلى أيّ صورة سينتهي هذا؟! أهذه هي نهاية ذاك أم هذا هو علة تلك؟ أهذه حقيقة ما يريدون منّا تصديقه والتسليم لهم بصحته؟! وهكذا وهكذا تستمر أسئلة من هذا النوع طيلة حياة غالب البشر، باستثناء فاقدي أو ناقصي أو مغيبي القوى العقلية، والأمر في هذا نسبي يختلف من شخص لآخر، وشرحه يطول.. يبدأ بعض تلك التساؤلات الحائرة المبهورة كبيرًا، وبعضها الآخر يبدأ صغيرًا؛ ثم يكبر تدريجيًا مع كبر عقل صاحبه واتساع أفقه وتقدم خبراته واطلاعاته ونموه الثقافي والفكري.
يختصر أرسطوطاليس علاقة كل ذلك بموضوعنا في قوله:» إن الدهشة أول باعث على الفلسفة».
وبناء على ما سبق نستطيع أن نقول:
إن الفلسفة ضرورية جدًا لنا، فهي تنشط أذهان بني الإنسان، وتجعل العقول مهيأة لدراسة كلِّ العلوم والتخصصات بصورة أكمل وأفضل من دراستها دون فلسفة.. إنها تؤهل العقل للخوض بطريقة صحيحة في بحار المعارف بلا استثناء، بحثًا عن الحقائق والحكم والتساؤلات والإجابات والمتع والمنافع وغيرها، بتأمل الأشياء والربط بينها.
وحاجتنا لها بالغة؛ لأنها تهدم صروح الأوهام والخرافات المتوارثة، وتقتحم كلَّ تابوهات الأسرار المحظورة، فتكسر مراتيج أبوابها، وتعتق المعتقلين داخلها، وتحررهم من الأغلال والقيود الفكرية، التي منعت عقولهم من السير نحو فضاءات الثقافة الحرّة واستنشاق أكسجينها النقي.
لكل تخصص علمي عام أو دقيق أهدافه ومقاصده وأغراضه وغاياته ومراميه.. أمّا غاية أمِّ العلوم الفلسفة، فهي أيضًا أمٌّ أخرى، أي أمّ كل تلك الغايات؛ لأنها تدل جميع الدارسين والباحثين والمثقفين والمفكرين والعلماء في كل مجالات العلم والمعرفة إلى الغايات العامة والأساسية، وترشدهم إلى الأهداف النهائية الكلية الكبرى، التي تجمعهم جميعًا تحت مظلتها على أرضية مشتركة صلبة، فيتحقق بذلك النفع الشامل العميم للمجتمعات التي يكثر فيها الفلاسفة والمتفلسفون والمفكرون الأحرار وعشاق الفلسفة وطلابها ودارسوها والمهتمون بها.
الحاجة أم الاختراع كما يقال، ولو نظرنا إلى العلوم والتخصصات المعرفيّة المختلفة، لوجدناها نشأت وتطورت من هذا الباب - باب الحاجة ورجاء المنفعة. ولذلك قالوا: وضع المصريون الأوائل أساس علم الهندسة، حين احتاجوا إلى تحديد ما يمتلكه الأفراد إثر فيضانات النيل السنوية المتتابعة. والقبائل البدوية الكلدانية من أوائل من تأمل النجوم، لحاجتهم إلى الاهتداء بها أثناء السير بقطعانهم. والطب نشأ لحاجة الإنسان إلى مقاومة الأمراض وعلاجها. والقانون وعلم الاجتماع وغيرهما من العلوم المشابهة نشأت نظرًا لاحتياج الإنسان إلى الأمن والاستقرار.. وهَلُمَّ جَرّا في بقية العلوم. والفلسفة جاءت أيضا من هذا الباب؛ فقد وُجدتْ بسبب حاجة الإنسان لها، وفي شرح هذه الحاجة يقول أحمد أمين مترجمًا لكلام رابوبرت:
«رأى الإنسان هذا العالم أمامه لغزاً فحاول حلّه، وتلك المحاولة هي الفلسفة، وقد كان أول حامل له على حلّه ما يرجوه من المنفعة من وراء ذلك. وعلى الجملة فقد حاول الإنسان كشف معميات الحياة ليكون أقدر على تحصيل مصالحه ورعايتها -جسمانية كانت أو روحية- وقد ظل العقل الإنساني يتلمس السبيل للوصول إلى فهم العالم والحياة فهماً جلياً ثابتاً صادقاً، ويحل ما يعترضه من ألغازهما. وتنوعت أمامه المسائل، فمن أرض ذات فجاج، إلى سماء ذات أبراج، زُيّنتْ بالنجوم للناظرين. العقل البشري فيها يرتاد (واحة) ويجد في البحث لينفذ إلى أسرار الطبيعة ينشرها بين الناس لينتفعوا بها - وبينا هو يتطلب معرفة الأشياء فراراً من الجهل انبعثت فيه رغبة في المعرفة نفسها، وصار يتطلب المعرفة للمعرفة، لا قصداً للفائدة العملية. والإنسان مفطور على حب الاستطلاع، وهذه الرغبة المتأصلة في أعماق نفسه لا تستأصل، وهي دافع قوي يقوى بنمو العقل، ويحمل على تطلب معرفة الحقائق الكبرى الأساسية لهذا الوجود وتلك الحياة، وعلى البحث في علل الأشياء وعلاقة بعضها ببعض، وهذا ما دعا الإنسان أن يتفلسف».. انتهى كلامه.
كلُّ علم من العلوم ينظر إلى الإنسان أو يتفاعل معه الإنسان من زاوية خاصة محددة جزئية ضيقة مهما اتسعت رقعتها وتمددت وتفرَّعت. أما الفلسفة فإنها تقدم النظرة الكبرى الضخمة العظيمة الشاملة الكلية العميقة المترابطة، ليس للإنسان فقط، بل له وللحياة كلها والكون وكل ما فيه.
وفائدتها على الصعيد الشخصي ليست أقلّ من فائدتها العامة للمجتمعات، فالأفراد الذين مرَّنوا عقولهم بجدية ومتعة كاملتين على التفكير الفلسفي والمنطقي والتفلسف والتفكّر الزائد، يكونون في الغالب أقدر من غيرهم على الانسجام مع تغيرات الحياة وطوارئها وتقلّباتها وظروفها مهما قست واشتدت من ناحية، وأقدر من غيرهم -من ناحية ثانية- على توجيه سهامهم إلى الأهداف المتناسبة مع قدراتهم وإمكاناتهم وظروفهم، فيصيدون الصيود النافعة الثمينة.
نعم، إن الفيلسوفَ صيّادٌ سفينته عقله، يخوض بها في عباب بحار الحضارات والمجتمعات والثقافات، بحثًا عن الغالي النفيس من معارف الشعوب، وطلبًا للحكمة التي يُعّرفُ هو -أي الفيلسوف- بأنه العاشق لها المتيّم بحبها، كما أوضحنا في الجزء الأول من هذه السلسلة.. يقتحم بسفينته الذهنية بحار الأفكار مجتهدًا في الوصول إلى الحقائق أو إلى ما يرجّح عقله أنها حقائق.. يبحر هذا الصياد ومعه سناراته وشباكه العقلية، فيصطاد من تلك البحار ما يراه مفيدًا لتغذية عقله.
إنه متسوق سلّته ذهنه الفطن المتيقظ دائمًا، يتجول بهذه السلة في أسواق ثقافات الشعوب، متنقلاً بين دكاكينها المعرفية والعلمية المختلفة، فيختار من البضائع المعروضة في تلك الأسواق ما يناسبه ويقنع عقله، ويضعها في تلك السلة بتجرد وحياد، دون أن يلتفت إلى العوامل التي تصرف المتعصبين وغير المحايدين عن الأخذ بالجميل أو المفيد من نتاج غيرهم. وإذا اكتشف يوماً أنه وضع في سلته المعرفية معلومة خاطئة، أو معلومة ظهر له -من خلال حواره مع غيره أو بحثه عنها- ضعفها أو بخس ثمنها، أو أنها تتصادم بقوة مع قناعة أخرى من قناعاته العريقة العتيقة الأثقل وزناً منها، أخرجها -أي المعلومة- ورماها فوراً بلا تردد في سلة مهملاته، مع ضرورة الاحتفاظ بسلة المهملات أيضاً؛ فالأفكار والقناعات تتغير باستمرار، وربما احتاج يوماً الرجوع إلى معلومة قديمة أهملها، دون إدراك لقيمتها الحقيقية الثمينة!
قد يقول البعض:
لن نلتفت إلى كلِّ ما أوردته وأورده غيرك عن فوائد الفلسفة ومحاسنها وجمالياتها وثمارها إذا كانت ستنتهي بعقولنا إلى اللا دينية والزيغ والهرطقة!.
وأفضل ردٍّ على هؤلاء هو القول المختصر الجميل لفرانسيس بيكون، الذي أورده وول ديورانت في كتابه الشهير» قصة الفلسفة»، مع تصرّف يسير منّي:
«إنّ القليل من الفلسفة قد ينزع بعقل الإنسان إلى الإلحاد؛ ولكن التعمّق فيها ينتهي بعقول الناس إلى الإيمان حتمًا».
فهل هناك ثمرة أعظم من هذه؟
هل هناك فائدة للبشر أكثر من الفائدة التي يحصل عليها المتعمّق في الفلسفة، وهي الوصول إلى بَرِّ أمان الإيمان، حتى لو اختلف البشر في مذاهبهم ومعتقداتهم الإيمانية - المهم أنهم آمنوا بموجد الوجود ومقدّر الأقدار. فنحن كمجتمعات مسلمة، نعتقد أن الإيمان الصحيح بالخالق، هو الإيمان بالله وفق ما جاء في القرآن الكريم، وفي سنة نبينا الأمي محمد عليه السلام. أما غيرنا من المجتمعات الكثيرة الأخرى، التي تشترك معنا في الإيمان بالخالق، فهي تؤمن بموجد الوجود وفق ما لديها من كتب مقدّسة وموروثات ومرجعيات ومرتكزات عقديّة مختلفة، والله يحكم بينهم بحكمته وعدله الإلهي الكبير، ورحمته التي سبقتْ غضبه.
وأريد أن أختم بنقطة قد يستغرب منها البعض كثيرًا، وقد أتعرض بسببها لهجوم لاذع من المختلفين معي حولها:
أقسم لكم إني لم أجد حتى الآن فيلسوفًا واحدًا ملحدًا إلحادًا خالصًا صرفًا كاملا واضحًا جليًا قطعيًا ظاهرًا لعيان المتأمل المنصف في كل أقواله وأفعاله وكتاباته بتدقيق شامل، رغم كثرة بحثي وطول قراءاتي.. حتى أولئك الفلاسفة الذين اشتهروا -عند البعض- بأنهم رموز الكفر والزندقة، إذا تبحّرنا في كتاباتهم وأقوالهم وما رُوي ونقل وترجم عنهم، لابد أن نجد ومضة إيمانية مدفونة في سطر، أو إشارة فطرية لم تسعفه لإخفائها مهاراته في المراوغة.
نتوقف هنا، ونتحدث في الجزء القادم -إن شاءت الأقدار- عن أبرز موضوعات الفلسفة وفروعها وخصائصها، باختصار شديد مبسط، يناسب المبتدئين المستهدفين بهذه السلسلة، خاصة الذين حُرموا من دراستها في المدارس والجامعات السعودية، التي ما زالت لا تُدرّس الفلسفة لأسباب لا نعلمها!.