الحديث عن الأستاذ الدكتور حمد بن ناصر الدخيل حديث ذو شجون، فمنذ أن دخلت كلية اللغة العربية بالرياض وأنا أسمع به، فكان مديرا لمعهد تعليم اللغة آنذاك، وقد طبقت شهرته بين طلابها بتخصصه في الأدب المملوكي، وقدرته على تقريبه للطلاب على الرغم من تعدد أقاليمه، وكثرة شعرائه، وفنونه.
وحين انتهت مدة إدارته للمعهد وعاد إلى كلية اللغة العربية كثر لقائي به، وحديثي إليه، وقد وجدت فيه رجلا لطيف المعشر، لا يقيم بينه وبين الآخرين حاجزا يتدرع به من أن يقترب منه أحد أو يتزين بتواضع كاذب.
شغل الدكتور حمد الدخيل عددا من المواقع في الجامعة، وبقدر ما أفادها أخذته عن العطاء العلمي فلم ينكب على العلم والكتابة كما ينبغي لرجل في غزارة علمه وسعة اطلاعه. هذه السعة تقابلنا في الموضوعات التي كتب فيها، فقد اشتهر ابتداء بميدان التحقيق الذي يعد من أهم الميادين المعرفية إذ يتطلب معرفة واسعة في مصادر الأدب العربي القديم، ومعرفة أيضا بالذوق الأدبي القديم تجعله يميز صحيح القول من سقيمه، ويميز ثابته من منحوله.
والقارئ في تآليفه يجد آثار التحقيق ظاهراً لديه، وفي كتابه «حمزة بن بيض الحنفي» دليل ذلك، فهو يتقصى الأقوال المختلفة، والروايات المتعددة، ويثبتها جميعا مع المصادر الأصلية التي أوردت كل قول أو خبر، مع ثراء التعريفات، والشروحات التي شحنت بها الحواشي حتى إن القارئ ليشعر أن الحواشي مصادر علمية قائمة بذاتها تماثل مادة الكتاب الأصلية لنفاسة المعلومات التي فيها، ولضخامة الجهد الذي بذل في جمعها من المصادر المطبوعة والمخطوطة.
ومن أمثلة ذلك ما جاء في الكتاب عند حديثه عن قبيلة بني حنيفة، وأعلامها المشاهير في الجاهلية والإسلام، إذ تتبع ذكر الأعلام في المصادر المختلفة، وأحال في كل مصدر إلى موضعه، وربما ذكر شيئاً من أخباره في التاريخ كما في هوذة بن علي الحنفي سيد بني حنيفة في الجاهلية والإسلام، حين ذكر طرفا من خبره، وأحال القارئ إلى تسعة مصادر، وكذلك الأمر في شمر بن عمرو صاحب المنذر بن ماء السماء، وهي سمة لا نجدها إلا عند المحققين الذين توافرت لهم المقدرة على الغوص في كتب التراث من خلال الصحبة الطويلة، واجتمع لديهم الكم الغزير من المعارف، والعلوم.
وعلى الرغم من هذه المعرفة الغزيرة في كتب التراث ومصادره، فإنها لا تختلف عن سعة اطلاعه على كتب الأدب الحديث عند رواده من أمثال الرافعي، والعقاد، وطه حسين، والزيات، وأحمد أمين، وهو ما انعكس على لغته الأدبية التي يكتب بها مقالاته، ومقدمات كتبه، فقد تجد المقاطع التي لا تكاد تفرقها عن أساليب الإنشائيين في عصر النهضة من مثل قوله: «لأن الشعر ليس وزنا وقافية، وليس رصف ألفاظ، بل الشعر موهبة وطبع يزكو بالتجربة والمعاناة، ويجري على اللسان بالانفعال الصادق والشعور المرهف والعاطفة الجياشة».
فهذا القول يشبه إلى حد كبير قول المنفلوطي في صفة الشعر الجيد: «وكان أشعر الشعراء عندي وأكتب الكتاب أوصفهم لحالات نفسه أو أثر مشاهد الكون فيها، وأقدرهم على تمثيل ذلك وتصويره للناس تصويراً صحيحاً كأنما يعرضه على أنظارهم عرضاً أو يضعه في أيديهم وضعاً» فصدق الشاعر، وانطلاقه من العاطفة الصادقة هو المعيار في تحديد جودة الشعر، لدى المنفلوطي، والدخيل، وكذلك بعده عن الألفاظ المرصوفة التي لا تعبر عن حقيقة ما يشعر به الشاعر ساعة إنشاء القصيدة.
كما بدت هذه المعرفة في الموضوعات التي تناولها في كتبه، وهي موضوعات متعددة، ومتنوعة تمس جوانب الحياة الاجتماعية، والأدبية، بصورة كبيرة، فأصدر كتابا عن الأدب السعودي يتناول فيه مسألة عالمية الأدب السعودي فيرى أنه لم يلق من الانتشار ما يستحقه على الرغم من اطلاع كبار أدباء عصر النهضة عليه، وإعجابهم به من أمثال طه حسين، والعقاد، ويتناول مسألة أثر الصحافة على الأدب السعودي، فيرى أنه على الرغم أن هناك أثرا بينا للصحافة على الأدب، يتمثل بنشر الأدباء أدبهم، وتخصيص بعض الصحف ملاحق أدبية لاقت نجاحا ورواجا، خاصة أن الصحافة هي الوسيلة الجيدة التي يميل إليها الكتاب والقراء على حد سواء، فالكتاب يطبع فيجلس في المستودعات سنين، في حين أن الصحيفة أو المجلة تصل إلى القارئ في مكتبه وفي منزله مما يتسنى للمثقفين الحصول على المعرفة بيسر وسهولة، فيتعرف على كتاب العصر، ومستجدات الفكر، وفنون الأدب دون بذل جهد أو مشقة، وضرب أمثالا من كتب كانت في أصولها مقالات صحفية من مثل حديث الأربعاء لطه حسين، وفي منزل الوحي، وحياة محمد لمحمد حسين هيكل، وكذلك وحي القلم للرافعي، إلا أن هذا الأثر لم يكن بالأثر المرجو، فمن خلال متابعته لما ينشر في الصحف وجد أن كثيرا منه «لا يرقى إلى مستوى الأدب الذي نطمح إليه، ونأمل منه أن يصنع لنا المجد الأدبي الذي نتوق إليه»، ويقدم اقتراحات يراها ذات قيمة في رفع فاعلية الصحافة في الأدب، وهي اقتراحات قيمة حقاً من نحو مطالبة الصحف بالتركيز على القضايا الأدبية المهمة، وإسناد الإشراف على صفحاتها الأدبية إلى متخصصين في الأدب، بحيث يستطيعون تمييز جيده من غثه، ويفتحون المجال للأصوات الشابة المتميزة لإمداد الصحف بالكتاب، واستكتاب الكبار منهم ومنحهم المكافأة التي يستحقونها، ودعا إلى استصدار مجلات خاصة بالأدب حتى تخصص حيزا كبيرا له وتسهم في نشره على مستويات متعددة ونطاق واسع فصل ذلك في مقالاته، كما كتب في التاريخ فتناول التجربة السعودية في بناء الوطن بصورة نادرة الحدوث في التاريخ في كتاب بعنوان: اختصار الزمن، كما تناول بعض الأعلام بالتعريف في كتابين خص أحدهما للحضارة الإسلامية، والآخر أعلام الكتابة الفنية والشعر في الأدب العربي، وكتب في علم الاجتماع والحضارة فأصدر «نظرات في التاريخ والحضارة والتراث»، تناول فيه بشكل موجز عددا من الموضوعات كالعلاقات الاجتماعية في المجتمعات المتبدية والمحضرة، والنخلة وقيمتها عند العرب، وبث فيه توجعه من ضياع التراث وإهماله، وتساءل عن مصيره، ودعا إلى بذل الجهود للبحث عنه.
والتجول في مؤلفات الدكتور حمد بن ناصر الدخيل يمتع النفس والعقل، ويزيد في العلم، والقراءة فيه تشبه إلى حد كبير القراءة في كتب التراث التي جمعت من كل فن بطرف، وكانت مجالاً واسعاً للقاء العلوم الإنسانية دون تنازع بينها لموسوعيته السابقة الذكر، وهو بحاجة إلى قراءة جادة، توضح منهجه في التحقيق، وتكشف جهوده العلمية الجادة، وآراءه العميقة.