(السُّخريَّة) مصدرُ (سخِرَ). وهي بتشديد الياءِ ليس غير. وقد أولِعت العامَّة، والخاصَّة بتخفيفِها. وهو لَحن فاشٍ لم أقِف على مَن نبَّهَ عليه من جميعِ من صنَّفوا في التصحيحِ اللُّغويِّ. والذي أوقعَهم في هذا اللَّحنِ، وتسفَّهَهم عن دَرك الصَّوابِ فيه أنَّهم لا يَنفكُّون يَرون هذه الكلِمةَ مضبوطةً في بعضِ معجَماتِ العربيَّةِ، وأسفارِها المطبوعةِ بتخفيفِ الياءِ ضبطَ رَسمٍ، لا ضبطَ نصٍّ، فاعتقَدوا صحَّتَه، وأنِسوا إليه، ولم يَخلِجهم فيه شَكٌّ يندُبُهم إلى البحثِ في بصيرةِ أمرِه.
ولا جرمَ أنَّ هذا الضبطَ خطأ إمَّا مِن بعض النُسَّاخِ، وإمَّا مِن تصرُّفِ المحقِّقين، واجتهادِهم ركونًا إلى طولِ الإلْفِ معَ قلَّة التثبُّتِ، والأناةِ، أو اعتمادًا على ضبطِها في الكتبِ المطبوعة.
وأنا أسوقُ الآنَ الأدلَّة على أنَّها بتشديدِ الياءِ لا بتخفيفِها. ولن أوردَ إلا النصوصَ الصريحةَ القاطعةَ غيرَ محتجٍّ بشيءٍ من الضبطِ المجرَّدِ لما بيَّنتُ، علَى أنَّها ثابتةٌ في أكثرِ المخطوطاتِ الصِّحاحِ بالتشديدِ(1). وهي أربعة:
1-النصُّ على أنَّ في آخرها ياءَ النِّسبة. وياءُ النِّسبةِ مشدَّدة غيرَ شكٍّ. ومن مَّن ذكرَ ذلكَ ابنُ دُرُستوَيهِ (ت 347هـ)، قالَ: (ومصدرُه السُّخريَّة، كأنها منسوبةٌ إلى السُّخرة... كما يقالُ: العُبوديَّة، واللُّصوصيَّة)(2). وقالَ أبو هلالٍ العسكريُّ (ت 395هـ): (والمصدر السُّخريَّة، كأنها منسوبةٌ إلى السُّخرة، مثل العُبُوديَّة، واللُّصوصيَّة)(3). وذكرَها أيضًا نشوانُ الحميريُّ (ت 573هـ) في باب المنسوبِ مقرونةً إلى (سخريّ)(4).
2-التمثيلُ لها بما هو متيقَّنُ البِنية. وذلك من جهةِ الاتِّفاقِ في لَحاق ياءِ النِّسبة. وقد مثَّلوا لها بالعُبُوديَّة، واللُّصوصيَّة كما مرَّ. ومن جهةِ الاتِّفاقِ التامِّ في وزنِ البِنيةِ. وقد مثَّلَ لها الرَّازيُّ (ت بعد 666هـ) بـ(العُشْريَّة)، فقالَ: (والاسمُ السُّخْريَّة بوزنِ العُشْريَّة)(5)، ومثَّلَ لها ابنُ معصومٍ (ت 1120هـ) بـ(تُرْكِيَّة)، فقال: (والاسمُ السُّخريَّة كتُركِيَّة)(6).
3-وزنُها وزنًا صرفيًّا. وقد صنعَ ذلك ابنُ المؤدِّب (ت نحو 350هـ) إذ سرَدَ أبنِيةَ المصادرِ، وذكرَ منها (وفُعْليَّة نحو سُخْريَّة)(7). وتابعَه ابنُ القطَّاع (ت 515هـ)، فعرضَ مصادرَ الثلاثيِّ، وذكرَ منها (وعلَى فُعْليَّة نحو سُخْريّة)(8). وصحيحٌ أنَّ ذلك ضبطُ قلمٍ بيدَ أنَّ بِنية (فُعْليَّة) ثابتةٌ في بِنَى المصادرِ بلا ريبٍ. وقد ذكرها عددٌ من النُّحاةِ، ومثَّلوا لها بـ(حُقْريَّة)(9). و(حُقْريَّة) على وزنِ (فُعْليَّة) قطعًا(10). ولم يذكر أحدٌ قطُّ (فُعْلِيَة) بالتخفيفِ في أبنيةِ المصادرِ، فوجبَ أن يكونَ هذا نصًّا على أن وزنَ (سُخْريَّة) هو (فُعْليَّة) بالتشديد.
4-تسويتُها بلفظِ المذكَّرِ في ما خلا التأنيثَ. وذلكَ قولُ صاحبِ «العينِ»: (والسُّخريَّة مصدرٌ في المعنيين جميعًا. وهو السّخريُّ أيضًا. ويكونُ نعتًا كقولِك: هم لكَ سخريٌّ، وسُخريَّةٌ، مذكَّرٌ، ومؤنَّثٌ)(11). وزادَ أبو منصورٍ (ت 370هـ) في «التهذيب» نقلًا عن «العين»، وسقطَ من المخطوطةِ: (مَن ذكَّر قالَ: سخريّ.ومَن أنَّثَ قالَ: سُخريَّة)(12). وأنت تراه لزَّ (السّخريّ)، و(السُّخريَّة) في قرَنٍ واحدٍ، وسوَّى بينَهما. ولو كانَت (السُّخريَّة) مخفَّفةَ الياءِ، لجلَّى عن ذلكَ، وبيَّنَه.
وأنصعُ من هذا دلالةً قولُ ابنِ سيده (ت 458هـ): (وكذلك سِخريّ، وسُخريَّة. مَن ذكَّرَه كسرَ السِّين. ومَن أنَّثَه ضمَّها)(13)، فلم يذكر بينَهما فرقًا غيرَ اختلافِهما في التذكيرِ، والتأنيثِ إلا أنَّ المذكَّرَ مكسور السّين، والمؤنّث مضمومها. ولو كانَا يختلِفان أيضًا في تشديدِ الياء، وتخفيفها، لما فاتَه الإبانةُ عنه، والتنبيهُ عليهِ. وإذن فياء (السُّخريَّة) مشدَّدة كياءِ (السّخريّ).
هذا جملةُ القولِ في أدلَّة التشديدِ. وقد وقعَ في كتاب «الأوائلِ»(14) لأبي هلالٍ العسكريِّ بيتٌ نسبَه إلى الأعشَى، وهو قولُه:
لا تلُمني ربَّ العبادِ، فما كُوْ
وِنتِ إلا سُخريَّةً لِلعِبادِ
وهو بيتٌ يصلُح أن يكونَ شاهدًا يُظاهرُ ما ذكرنا لأنه لا يحتمِل تخفيفَ الياءِ لفسادِ وزنِه بذلك لأن الطيَّ لا يلحَق (مستفعِ لن)، غيرَ أنَّ هذا البيتَ مشكوكٌ فيهِ لأنَّه نُسِب في بعض النُّسخ المخطوطةِ إلى (الآخر) من غيرِ تسميةٍ. ولم أصبه في دواوينِ العُشيِ، ولا في كتابٍ آخرَ، وأسلوبُه يشبِهُ أن يكونَ إسلاميًّا، أو مولَّدًا، فلعلَّ نسبتَه إلى الأعشى من وهمِ بعضِ النُسَّاخِ. ومتَى كانَ كذلك لم يجُزِ الاحتجاجُ به. علَى أنَّه مع ذلكَ يصفُ صورةَ نطقِهم للكلِمةِ آنَ ذاك. وهذه على كلِّ حالٍ قرينةٌ عاضِدةٌ.
فإن قيلَ:
فلِمَ لا يكونُ في (السُّخرية) لغتانِ صحيحتانِ، تشديدُ الياء، وتخفيفُها.
قلتُ:
هذا ممتنعٌ لوجهينِ:
1-أنا لم نجِد أحدًا من أصحابِ المعجماتِ، وغيرِها صرَّحَ بذلك، وإنَّما يذكرون لفظًا هذا صورتُه (سُخرية) على اختلافٍ بين النُّسَخ المطبوعةِ في ضبطِ يائِه. ومِن شأنِهم، وهجِّيراهم أن ينصُّوا على لغاتِ اللَّفظِ الواحدِ كما نراهم نصُّوا على حركةِ السِّين من (سخريّ) إذ كانَ فيها لغتانِ الضّمُّ، والكسرُ، تارةً بتَكرارِ اللَّفظِ مشكولًا، وتارةً بالتصريحِ بحركاتِه، فمن الأوَّلِ قولُ الجوهريِّ (ت 398هـ): (والاسمُ السُّخرية، والسُّخريّ، والسِّخريّ)(15)، فكرَّرَ لفظ (السّخري)، ولم يكرِّر لفظَ (السُّخرية). ومن الثاني قولُ ابنِ الأثيرِ (ت 606هـ): (والاسمُ السّخريّ بالضم، والكسر)(16)، فذكرَ الحركتينِ في سينِ (السّخري). ونظائرُ هذا مستفيضةٌ شائعةٌ.
فلمَّا رأيناهم لم يكرِّروا قطُّ لفظَ (السّخرية) مشكولًا بالوجهينِ، ولا نصُّوا على التشديدِ، والتخفيفِ كما نصُّوا على الضمّ، والكسر في سينِ (السّخريّ)، علِمنا أنَّه ليس في هذه الكلِمةِ إلا لغةٌ واحدةٌ، وهي التشديدُ، للأدلَّةِ التي أوردناها آنفًا.
وعلى أنَّه لو كانَت (السُّخرية) جائزةَ التخفيفِ، لكان اللُّغويّون، وفيهم فِطنةٌ، ودقّة تتغلغلُ إلى أبعَد من هذا، خُلَقاءَ أن لا يدَعوا التنبيهَ على ما فيها من النُّكتةِ في مباينةِ (السّخريّ)، فيقولوا مثَلًا: (السُّخريّ إذا ذكَّرتَها ضعَّفت الياء، وإذا أنّثتَها خفَّفتَها، أو جازَ تضعيفُها، وتخفيفُها) كما قالوا في (الباقلَّى): (إذا شدَّدتَّ اللامَ قصرتَها. وإذا خفَّفتَها مددتَّ)(17). وقد عقدَ الفرَّاء (ت 207هـ) في كتابِه «المنقوص والممدود» في مثلِ ذلك أبوابًا، منها بابٌ سمَّاه (ما يُفتح، فيُمدّ، ويُضمّ، فيُقصر)، وكذلكَ أنشأ ابن قتيبةَ (ت 276هـ) في كتابِه «أدبِ الكاتب» بابًا سمَّاه (باب ما يُقصَر، فإذا غُيِّر بعضُ حركاتِ بنائِه مُدَّ). وبصددٍ من هذا ما تراهُ في «إصلاحِ المنطقِ»، و«فصيح ثعلبٍ»، وغيرِهما من شِدَّة توجُّسِهم، واحتراسِهم، وتمامِ دقّتِهم، وضبطِهم.
2-أنه لا يُعرَف في مصادرِ الثلاثيِّ على كثرتِها ِبناءُ (فُعْلِيَة) بالتخفيف، وإنَّما يُعرَف فيها بِناءُ (فُعْلِيَّة) بالتشديدِ كما بيَّنَّا. وإذن لا يجوزُ أن يدَّعى ثبوتُ (سُخْريَة) بالتخفيفِ. وهذا واضحٌ.
وبذلكَ يتبيَّنُ أنَّه لا يصِحُّ في هذا اللفظِ إلا (سُخريَّة) بتشديدِ الياءِ.
** ** **
الحواشي:
(1): راجع مثلًا حاشية تهذيب اللغة للأزهري 7/ 167، وحاشيةَ تهذيب الصّحاح للزنجاني 1/ 287.
(2): تصحيح الفصيح 171.
(3): الفروق اللُّغوية 255، ط دار العلم والثقافة.
(4): شمس العلوم 5/ 3015، 3016.
(5): مختار الصّحاح، س خ ر.
(6): الطِّراز الأوَّل، س خ ر.
(7): دقائق التصريف 50.
(8): أبنية الأسماء والأفعال والمصادر 374.
(9): راجع تسهيل الفوائد لابن مالك 204، وشرح المصنِّف له 3/ 469، وسائر الشروح، وارتشاف الضرب لأبي حيان 2/ 484، ط الخانجي.
(10): انظر العين 3/ 43، فما بعده.
(11): العين 4/ 196.
(12): التهذيب 7/ 167.
(13): المحكم 5/ 74، تح هنداوي.
(14): 2/ 172، تح قصَّاب.
(15): الصّحاح، س خ ر.
(16): النهاية في غريب الحديث والأثر، س خ ر.
(17): الغريب المصنف لأبي عبيد 2/ 425، تح داوودي.