منذ أدرك غابرييل غارسيا ماركيز، بفطنته منذ وقت مبكر من حياته، بأن على المرء إذا ما قدر له أن يحلم أن يحلم حلما كبيرا، وهو يخبر والدته بأنه إن كان عليه أن يصبح كاتبا فليصبح كاتبا كبيرا، وهذا ما حدث بالفعل، ففي نحو منتصف العام 1965 انكب ماركيز خلال 18شهرا بشكل يومي متواصل على كتابة روايته وملحمته الشهيرة «مئة عام من العزلة»، والتي دخل أثناء كتابتها، حالة من العزلة باع على إثرها حتى يمكنه أن يعيش سيارته وأثاث منزله، واضطرت زوجته لشراء الخبز بالدين، وفي النهاية حقق ما آمن به من حلم عبر عمل سردي وصفه بعض النقاد بالعمل العبقري الذي تجلت فيه الواقعية السحرية، وهكذا صدرت الرواية الأشهر في تاريخه الروائي في العام1967 ونعتت بأنها ملحمة إنسانية تروي تاريخ الإنسان في أمريكا اللاتينية وتسرد حكاية قرية»ماكوندو» الخيالية التي استوحاها الكاتب من قرية «آركاتكا» مسقط رأسه لتغدو القرية الصغيرة رمزا للعالم، وقد عدت الرواية ثاني أكثر الأعمال الأدبية المنشورة باللغة الإسبانية انتشارا بعد «دون كيشوت»، وترجمت إلى ما يقارب 27 لغة، منها اللغة العربية، وهي ذات الرواية التي حققت له في العام 1982 حلمه الكبير في الحصول على جائزة نوبل. وبعدها تناسلت أحلام ماركيز التي أسهمت في صناعة لبنات عالمه الروائي الشاهق والذي تجاوز صيته حدود موطنه ليصل إلى العالم بأسره.
وقد تبع نجاح هذه الرواية نجاحات أخرى، انبثقت مع نص «خريف البطريرك» الذي وصف بأنه قصيدة نثر طويلة، ورواية «أخبار موت معلَن» التي كتبها ماركيز على شكل ريبورتاج. واختلط في سردياته الخرافي المرتكز على الفلكلور الشعبي الذي غذته حكايا جدته التي عاش في كنفها طفلا ومراهقا والواقعي الذي كرسه داخله ما كان يقصه عليه جده من أحداث تاريخية وحروب. وبعد الجائزة، أصدر ماركيز رواية «الحب في زمن الكوليرا» (1985) والتي سرد فيها قصص حب مقهورة، ثم رواية «الجنرال داخل متاهته» التي تناول فيها المرحلة الأخيرة من حياة سيمون بوليفار. ورغم مرض السرطان الذي تسلل إلى رئتيه عام 1992، وخضع بسببه لعملية جراحية خطيرة، إلا أن ذلك لم يطفئ جذوة نشاطه الكتابي، فأصدر رواية «عن الحب وشياطين أخرى» (1994)، وفيها استعاد جميع موضوعاته المفضلة، ثم «يوميات اختطاف» (1997)، وهي رواية وثائقية حول ستة رهائن في قبضة عصابة تاجر المخدرات الشهير بابلو إسكوبار. وعلى أثر تشخيص سرطان ليمفاوي لديه عام 1999، قرر ماركيز إصدار سيرة ذاتية بعنوان، «عشتُ لأروي»، تبعها ديوان قصصي رائع وأخيرا، «ذكريات غانياتي الحزينات» (2004).
وتدور روايات ماركيز حول محور الزمن ودورانه المستمر، ويعيش أبطال رواياته حالة تحدي للواقع تدفعهم لمحاولة إعادة صياغته وفق شروط تقررها إرادات صلبة لا تنثني.
وقد حافظ ماركيز حتى سنوات قليلة مضت رغم مرضه على قدرته على الإبداع وصناعة الأحلام الجديرة بالتحقق وهو القائل: «ليس صحيح أن المرء يكف عن الحلم لأنه أصبح عجوزا، بل يصبح عجوزا حين يكف عن الحلم «، هذا ما قاله صاحب رواية «مائة عام من العزلة»، الرواية التي منحت صاحبها جائزة نوبل كما منحته شهرة واسعة، والذي ظل يحلم مستيقظا ويحقق جميع ما يراوده من أحلام تبدو للبعض غير قابلة للتحقق.
وفي آخر أعماله الروائية «مذكرات غانياتي الحزينات»، تدفع فلسفة الرواية المرء للتطلع للمستقبل وإلى الأمام لا للماضي أو الخلف. وفي آخر رسالة له عبر ما يقال إنها إحدى قصائده أو رسائله التي وجهها للعالم كان يقول» لو شاء الله أن يهبني شيئا من حياة أخرى، سأنام قليلا، وأحلم كثيرا. مدركا أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور. سوف أسير فيما يتوقف الآخرون وسأصحو فيما الكل نيام». ما يعني أن ماركيز حتى في أحلك اللحظات التي مرت به لم يتمن قرب النهاية بقدر ما حلم بمزيد من فرص الحياة، لا ليخلد للراحة بل ليوغل أكثر في صناعة أحلام المستيقظين.
وهنا نتساءل هل بقي حلم لم تسعف الحياة الطويلة الممتدة التي أوشكت أن تغدو قرنا»87عام»، ماركيز أن يحققه، البعض يقول: نعم، تحويل رواياته إلى اعمال تلفزيونية، ويذكر بأنه قد بعث خلاصة لقصة كوميدية بعنوان: «سهلة للغاية حتى الرجال قادرون عليها»، إلى المخرج الإسباني لويس بونويل، لتحويلها إلى شريطٍ فيلمي. لكن الأخير لم يفعل شيئاً حيالها، ووضعها جانباً ليطوي مع مرور الزمن، على حلم قديم كان مؤلف «مائة عام من العزلة» في غاية الشوق لتحقيقه.
وقد عقد غابرييل أو «غابو» كما كان يدعوه أصدقاؤه ورش لكتابة سيناريوهات ومنها ورشة لكتابة سيناريو لقصته :(أبيع أحلامي) التي كتبها ماركيز عام 1980 . وتحكي قصة امرأة تدعى (إلما) تطرق باب منزل إحدى العوائل الميسورة وتعرض عليهم العمل عندهم، وعندما يسألونها عن نوع العمل الذي يمكن أن تؤديه؟ تجيب: أنا أبيع أحلامي!
وها هو ماركيز الذي لم يكف يوما عن إحالة أحلامه إلى سطور ممتدة على الورق حتى غدا أحد أكبر عمالقة أدب أميركا اللاتينية. يتلقى العالم خبر وفاته من قبل رئيس كولومبيا في 17أبريل الماضي بعد دقائق قليلة فقط من إعلان قناة «تيليفيزا» المكسيكية أن الكاتب الذي كان قد بلغ السابعة والثمانين من العمر توفي في منزله في مكسيكو محاطاً بزوجته وابنيه، بعد معاناته في أيامه الأخيرة من التهاب رئوي.