Saturday 03/05/2014 Issue 436 السبت 4 ,رجب 1435 العدد
03/05/2014

عودة إلى العودة ..

أحتفظ للشاعر والمثقف الكبير المعلم عبد الكريم العودة بأربع قصائد هي «خيول المتنبي على أبواب كافور»، «توقيعات على رمل الخليج»، «فاتحة القصائد»، و»البكاءُ بين يدي فاطمة».

وهي قصائد تشبه عبد الكريم إلى حدٍّ بعيد: فهي عالية رقيقة، دافئة عميقة، هادئة ثائرة، ذات طابع سيمفوني، وهي حوار أمواج: مدٌّ وجزر، وأسئلة داخلية، وغموضٌ هادفٌ. لها أرضية ثقافية خصبة، وخلفيات متحركة من الرمادي للأسود، لكنها تحاول إيجاد منافذ للضوء، وللزرقة:

«يبارحك الأصدقاءُ، إذا بارحتك الأغاني الحزينة..

أو بارحتك الهمومُ

تبارحك الفرحة البكر، حين تُبارح «أرواد»

يخمد ذاك البريق المشعشع في عين «فاطم»

تنكرك الطرقات، وينكرك الطيبون

إذا عثرت خطواتك في سيرها

فأنت مدينٌ لهذي الطفولة، بالحزن والوطن المتناثر

خلف البحار».

هكذا يفتتح عبد الكريم قصيدته الكاملة الشاملة «البكاء بين يدي فاطمة». إنها قصة الشاعر الشاهد عبر «فاطم»، والدرس، والوطن، الواقع والأمل، عبر النظرة الفاحصة عن بعد، ومن خلف البحار، حيث تكون الصورة مكتملة، وتكون العاطفة في أوج اشتعالها وصدقها لتزف الفجيعة والعزاء في آن:

«وما أنت إلا الشهادة للعصرِ

لستَ الشهيدَ الوحيدَ على أمرِهم

فحين تحاصرُك الهمهماتُ، وتقفوا الوجوه

التي تتدبرُ أمرَكَ،

تلزقُ مثل اللبانةِ بين شراشفِ نومِكَ

كالزيتِ في فتحاتِ ثيابِكَ

لا تبتئسْ.

فلست الوحيدَ الذي نبذتْهُ العشيرةُ

ضيّعهُ أهلُهُ

تركوا أمرَهُ للدروبِ العسيرةِ تحثوا عليه الترابْ.»

ولا تبتئس فهنالك فاطم/ الطفولة، هنالك نافذة للأمل:

« أكنت تُعلِّمُ « فاطمَ» هذي القراءاتِ - كيف

يعدّ الصعاليك قهوتهم..

ثم كيف ستقفز فاطم في ثوبها المتوردِ، يلعبُ فيه الهواءُ النديّ، تأخذُ دلّتَها وفناجينَ جدتِها وتصبّ لهم قهوة الكبرياءِ

تودّعهم بمقاطع من شعر «سعدي»

وما قاله الشعراءُ عن النخلةِ العربيةِ

تهمسُ في خيلِهم: لن تطيلي الغيابَ،

وترفعُ حنّاءَها للوداعْ».

وهنا تأتي قيمة الشعراء الكبار، والمثقفين الكبار الذين لا يزرعون اليأس، ولا يغلقون النوافذ، ولا ينزعون إلى تتفيه أمتهم وحضارتهم، ولا ينسلخون عن جلودهم، ولا يلبسون نظارات غيرهم لرؤية واقعهم ومستقبلهم، رغم أن هذه القصيدة كتبت هناك في الغرب البعيد:

« ستفتح «فاطم» شُبّاكها، بعد دهرٍ من الانتظار

ولا بدّ، في البدءِ، من أنْ تزيلَ الغبارَ الذي ملأ السقفَ

ما نسجتْهُ العناكبُ بين فساتينِها من ركودِ المشاويرِ،

تفتحُ شبّاكَ غرفتِها للهواءِ الجميلِ مع الصبحِ

للصّخَبِ المتوهجِ عند الصعاليكِ

للأغنياتِ التي اشتعلتْ نارُها في ثيابِ العشيرةِ

تنشدُها الفتياتُ - الصغارُ

ستهتفُ فيها طيورُ الحديقةِ

ترسلها السعفاتُ إلى شجرِ الطلحِ

يغتسل الرملُ والسنبلاتُ بماءِ الأناشيدِ

تدخلُ هذي الأناشيدُ في كلِّ بيتٍ

كما يدخلُ الضوءُ في غرفةٍ ملّها الانتظارْ..»

ويحق لك أن تسأل هنا، في حضرة هذا الشعر العذب لماذا لا يكتب شعراء اليوم -معظمهم- بمثل هذه الروح، هذه الحرقة، وهذه الإجادة؟!

لم لا يغنون أوطانهم؟! ولم يهربون من قضاياهم؟!

ولماذا أصبحت الكتابة ممسوخة تافهة باردة، لا دفء فيها، لا شموس ولا هواء، لا نوافذ ولا أسئلة؟!

« تلك نهايةُ الأوقاتِ، فاتحةُ القصائدِ في شغافِِ القلب

أنتِ قصيدتي الأولى

سيكتبُها الصغارُ على دفاترِهم

ستحملُها حقائبُهم، كوقعِ الموكب التتريّ

أنتِ قصيدتي الأولى،

سأكتبُ فيك ما أهواهُ من وطني

ومن عينيكِ

أسبحُ في غديرِهما

أكون سؤالَ صعلوكٍ، تبعثرَ في فجاجِ الأرض

أوقَدَ نارَ شهوتِه، على الفلواتْ

أنت قصيدة الأوقات

حين ترين أسئلتي تخفّ إليكِ

تسأل عن بذورِ العشقِ، واللعناتْ

كوني أرحم اللعناتِ، في وجهي

أو انبثقي –

انبثاقَ شرارةِ المنفى».

هذا الدفء والجمال، وهذه الحرقة من قصيدة «فاتحة القصائد» التي أبدعها شاعرنا عبدالكريم العودة عام 1982. وهي تحكي وتحاكي عبدالكريم بهدوئه الصاخب، وتطلعه القلق، وأسئلته الجادة الهادفة، وعمقه الذي لا يُسبر، وعشقه الأخّاذ للوطنِ والناس.

بل هو عبدالكريم ساعياً أبداً بين الخوف والحلم، بين الحلم والخوف على الحلم:

« هنالك ترقصُ الصحراءُ عاريةً،

وتورقُ في عيون الخيلِ آمالٌ مسرّجةٌ

وحين تقلّها الهضباتُ من نجدٍ

وتمنحُها الجبالُ السمر لهفتَها

تضجّ الأرض بالأسرار

تودع في عذوق النخل سرّ الصرخة الأولى

تمرّ بنا الخيول الحمر مسرعةً، وقد وردتْ

على ماءٍ بباديةِ الحجازِ

فهفّت الأوراقُ للفرحِ – الرسولْ.

هذا النخلُ من «جيزان»

من «نجران»

من بوابةِ «الأحساء»

من نبعٍ بأطرافِ «القصيم» جرى

فكان الشعر...

كان الموتُ يُمعنُ في تودّدِهِ»

هو عبد الكريم إذاً بتلفّتهِ الدائم حين كلّ الجهات الوطن.

وهو عبد الكريم إذاً يصوغ أفكاراً لا تفسدُ الشعر، بموسيقى عالية متموجة ولكنها لا تسرق الشعر أيضاً، إنه الشعر الخالص لا يتأتّى إلا لمن وهبهم الله أسراره:

« هذا الوقت فاتحةٌ، كما تدرين

هذا الصمت في عينيك، نبع قصائدي الظمأى

تقولين المدى رحْبٌ،

وشارعنا الذي هدموه لن ينسى طفولتَهُ

تقولين المدى بيتٌ، ومدرسةٌ

وحين تغادرين البيت، تأخذك المواعيدُ

كأنّ مداخلَ الطرقاتِ لم تأبهْ لمشيتِنا، وشكلِ لباسِنا

المرتاب، رجفة صوتنا الشجريّ يطلعُ من غبارِ الرمل

ننظرُ في وجوهِ الناسِ عند تجمّعِ العرباتِ في الشاراتِ

يقتلهم لهاثُ الشمس..

يفجؤهم نداءُ البائعِ الجوّالِ محتضناً جرائدَهُ..»

«تلك نهاية الأوقات».

بل بدايتها، طالما أنّ هناك «فاتحةٌ للقصائد»، طالما أنّ هناك قصائد، وشعر وغناء كهذا.. ومثقفون كهؤلاء.