يقول عبد الكريم العودة في مقالة قديمة له (هناك خطأ كبير نرتكبه حين نأتي، وخطأ أكبر نتركه حين نذهب).
من هنا أقول: خطيئة الحضور لا يمحوها ارتكاب خطئية الغياب.
كنت أقرأ لعبد الكريم العودة وأشعر أن شاعراً صادقاً قد أمعن في غواية القول.. علقنا بجنة الشعر وارتكب الغياب، لا أعرف كيف يبرر الغياب؟ ولا كيف للجنة المزروعة في قلوب الشعراء أن تتحول إلى أعجاز نخل خاوية فجأة؟
وأظن أن عبد الكريم العودة اختار الخيار الأول وترك خيار الكتابة، يقول في مقالة له نشرت في اليمامة بعنوان (أنا وهو) متماهياً مع قلمه الذي يريه سوأة المدن والشوارع ويفر منه كلما أيقظ في داخله الهم (هو لا يؤمن بأنصاف الجنون، فإما أن يعبر بجنون كامل أو أن يموت كما تموت الوعول وهي تنطح الجبال)، هذا الغصن النجدي الجميل قرر أن لا يكتفي بنصف الجنون، اختار الصمت واختفى كحلم جميل!
إن الدخول إلى عالم عبد الكريم العودة شبيه بالدخول لبركان، وعلى عكس ما تشي به صورته الوديعة وصوته الهادئ، تبدو كتاباته النثرية حمماً حارة تطرح شوك الأسئلة وتمضي نحو تلة أخرى، هذا المبدع القلق يكثر من طرح الأسئلة التي تغمد النصل في الخاصرة، ما زلنا نذكر مقولته الخالدة (نحن جيل بلا رواد) وهو بذلك لا ينفي الريادة عن جيل الرواد لكنه يقر بوجود قطيعة، بتلاشي الجسر الذي يمكن أن يصلهم كجيل بجيل الرواد، هذا الجيل الذي ينتمي له محمد الثبيتي وعلي الدميني وجار الله الحميد وعبد الله السالم وعبد الله باخشوين، لم يجدوا القنطرة، وقطعوا الدرب وحدهم، يقول ((إنني أشعر شعوراً قوياً بأننا جيل الكارثة، قبل كل شيء فنحن جيل بلا أساتذة، ونحن أيضاً جيل بلا نقاد)، قالها عبد الكريم وهو يتحدث عن جيله، أولئك الذين وجدوا هوة سحيقة بينهم وبين من سبقهم، هوة لن يستطيعوا عبورها نحوهم، ولن يستطيع الجيل السابق ردمها.
عبد الكريم يقبض على لحظات الصدق ويكتبها لنا كبيان صارخ اللهجة، ويريد لهذا البيان أن يصل لقارئ محدد، يريد أن يكون قارئه مختلفا، يكفر العودة بنظرية القطيع، ويرفض القارئ المستلب القارئ المصاب بعمى الألوان، ويحلم بقارئ يعترض، يناقش، يصفق أحيانا (ننتظر من القارئ أن يكون واعياً خارجاً لتوه من افتتاحيات الدمار)، هذا القارئ الذي توجه له العودة، خذله كثيرا عندما تحدث عن أدب المرأة في مقالته التي عنونها بـ (أدب المرأة لا عقل له) اعتبر العودة أن العاطفية التي توصم بها كتابات المرأة فيها إلغاء كامل لعنصر العقلية عند المرأة!
كانت مقالة صادمة بعنوانها، تطرح رؤية العودة في أدب المرأة آنذاك، رغم أن الجمهور تلقى مقالة العودة وكأنه يدين أدب المرأة وهو كما قرأت ينتصر لها ولأدبها، ينتصر للصراخ المقدس للمرأة، بل يرسم لها الفخ الذي نصب لها وقيدت به زمناً طويلاً، ويطالبها بالتحرر منه، وهو من القلائل الذين صعدوا بقضية المرأة نحو مداراتها الحقيقية، لم يكرر المقولة الدارجة عن أدب المرأة بل حلل كيف يمكن لمقولة أن ترسم خطة طريق لكتابة المرأة، هذه الخطة قيدت كتابة المرأة بقيد العاطفة لذلك -كما يقول- جاء تعاملها مع اللغة تعاملاً انفعالياً، يقول في وصف أدب المرأة آنذاك: (ليس هناك مقولة أكثر غبنا للمرأة من وصفها بأنها (كائن عاطفي) ومن خلال (العاطفية) تختصر كينونة المرأة وتوضع في بعد واحد من أبعادها الإنسانية، وعندما تمارس المرأة الكتابة تنعكس كل خلفيات هذه الطبيعة الأنثوية المعقدة والشائكة على إنتاجها الأدبي، لذلك فإن تفجير اللغة عند المرأة يكون عاطفياً، قهرياً، لا فنياً إبداعياً، أزمة الكتابة عند المرأة تتلخص في كونها ذات بعد واحد)، وهذا كلام أتفق معه تماماً، خاصة في الكتابات النسائية المحصورة في ندب الحظوظ ولطم الخدود، وهذا هو الرأي الذي يمكن التقاطع معه، لأنه لا يثبت مقولة أن الكتابات النسائية عاطفية تدور في فلك الرجل، بل يبررها، المقالة بالطبع عمرها عقود، لكني أقرأها وكأنها للتو خرجت من المطبعة، بهكذا وعي يمكن أن أنظر لكتابات أجيال وأجيال من النساء، عبد الكريم العودة هنا يحلل وينفي، ويقارن ويوضح كيف تتعامل المرأة مع اللغة وبأي رؤية، لا يلبس أدب المرأة رداء العاطفية، بل يطالبها بالتخلص من الشرك الذي نصب لها حين أوهمت أنها مجرد كائن عاطفي ضعيف ومنصاع، يطالبها أن تتعامل مع اللغة بوعي أكبر مما رسم لها، هذه اللغة التي يعول عليها العودة، لغة مختلفة وجميلة نحتها العودة في نصوص متجاوزة، والعودة ينظر للغة بطريقة مختلفة، إنه يتعامل معها كملاذ، يقول: «الكلمات وحدها تعرف سري، تعرف حقيقتي، تدرك الوهج الساطع في ذاكرتي، حين أدخل في غبار اللغة تستبد بي كل الهواجس، تقتحمني كل الاحتمالات، أظل منفياً كفكرة خاطئة، إن لغبار اللغة عندي طعماً لذيذاً هو ذلك الطعم الذي نجده في تحقيق الأشياء التي نحبها، في تدمير الأشياء التي نكرهها».
هذه اللغة التي يصفها العودة بأنها فاتحة الاحت مالات والهواجس، هي لذة تحقيق الحلم ولذة وأد الألم، هذه اللغة نراها في قصائد العودة حاضرة بقوة المطر، وليس بضبابية الغبار، ويقول في مقالة ثورية بعنوان (صوت العصر):
(لا بد من اختراق اللغة، الاصطدام بها، عليك أن تفترس القواميس والمعاجم لتصنع قواميسك الجديدة)، هذه اللغة التي افترس فيها القواميس والمعاجم، حضرت بقوة في نتاجه الشعري القليل الذي حصلت عليه، يقول في قصيدة (لا وطن مثلما أشتهيك):
(دعي ثوَبك الآن يغمرني
دعي بعضَ ثوبِك يستر
عري الكتابة في داخلي)
(كأن الثياب التي بيننا ما اشتهت بعضها
وما اشتجرت بينما نحن في غفلة نتحدث عن أفضل الوجبات)
(نعبر هذا الرصيف وذاك الرصيف
نحدق فيه
تفرقنا زحمة العابرين فنرجع ثانية نتماسك
تأخذ أثوابنا في الشجار)
جعل العودة الثياب هنا فاصلة أولى، لحديث شوق طويل، جعل للثياب كينونة بشرية، فهي التي تشتهي، وهي التي تتشاجر وتشتجر، والفرق بين المفردتين هنا يعطي للثياب دلالات مختلفة، فتعبير (الشجار) يمنحها فضيلة الامتزاج بكل ما يحمل من حميمية، وتعبير (تشتجر) تمنحها فضيلة الخلق والنمو فالثياب هي التي تتداخل وتشتجر.
وفي قصيدة (البكاء بين يدي فاطمة)
(ستفتح فاطم شباكها بعد دهر من الانتظار
ولا بد في البدء من أن تزيل الغبار الذي يملأ السقف
ما نسجته العناكب بين فساتينها من ركود المشاوير)
تسجد اللغة هنا للغبار الذي يضفيه العودة على معنى الركود، صورة شعرية لا تقرأها فحسب، بل تراها أمامك منحوتة بلغة يعرف العودة أنها تنقاد له دائما، وتتماهى مع الماضي والحاضر، يتمثل الشنفري ويكتب، ويستحضر أبا الطيب ويخاطب كافور، العودة مسكون برؤية متجاوزة، جعلت من قراءة الممكن قراءة محزنة ومحبطة، لذلك ربما ترك نهر الكتابة ويمم نحو بحار أخرى.
أحزنني أنني عبرت نهر الكتابة بعد أن تركه العودة، كان سيثريني أن أعبر هذا النهر وعبد الكريم أحد ينابيعه، تعاملت مع عبد الكريم كما تعاملت مع إرث غيداء، احتفظت بنصين يتيمين له هي (البكاء بين يدي فاطمة) (لا وطن مثلما أشتهيك)، وكنت أقرأهما متولهة بهذا الوجد الذي يسكن روح هذا الشاعر، هذا التماهي مع الأشياء، هذا البعث الذي يخلقه للحروف، وتساءلت كيف سيكون المشهد الثقافي آنذاك لو أن العودة ظل أحد أعمدته؟
هل كنا سنكون أفضل؟
هل ستكون الكتابة بحال أفضل؟
هل سنكون كجيل لاحق بحال أفضل؟
موقنة أنا أن حضور عبد الكريم سيشكل فرقاً، فراغ غيابه أتاح أماكن شاغرة عبأها فراغ الحضور ولو كانت نصوصا يصفق لها كثيرا. عندما يتوارى القمر، لا شك أن نجوما صغيرة ستصبح أشد لمعانا وبريقا،
عبد الكريم العودة بغيابه أتاح لنجوم كثيرة أن تشع وتحتل مقام القمر وهي دون ذلك، وفي الختام أقول للعودة ما قاله ذات قصيدة لنا:
زمانك صعب فكن مثله
وكن ضاريا من وعول الجبال
فأنت الخزامى ورائحة الشيح
أنت .. أنت المطر.