عبد الكريم العودة.. هذا الإنسان النبيل، الفنان العذب، الشاعر المذهل الناثر الآسر، سنجتاز عقوداً عديدة، ونغادر مراحل مديدة دون أن نعثر على مثيل له، هذا الجميل الهادئ كما أكثر عهود الرضا اكتفاء، الثائر كما أكثر المراجل عنفاً وغلياناً، أقبل كثير من رصفائه ومجايليه على موائد الغنى ووقعوا في مصائد المال، وأعلن كثير منهم عن أنفسهم في مساقط الأضواء وموارد الشهرة، أما هو فقد نأى بذاته الكبيرة وبأنفته وبأخلاقه وبمواهبه وقدراته العظيمة إلى منافي العزة والعفة والكرامة، لم أقل إنه استكان وأخلد إلى السلبية والتفريط، بل إنه جاهد وكافح من أجل أهله وبيته بالطرق التي أجمع عليها أهل التقى والذين لا يسألون الناس إلحافاً، أسجل ذلك ليس من قبيل الإشادة وتبجيل الأصدقاء، أو من قبيل الاحتفاظ بدور من أدوار هذا الملف الذي لا ننكر فضله وجماله، وإنما لأنني من أكثر الأصدقاء معرفة به وقرباً إليه، فلا أتذكر أن أحداً جلس إلى جانب عبد الكريم في غرفة الدراسة ولمدة أربع سنوات في كلية اللغة العربية مثلما جلست، ولا أتذكر أن أحدا بادله الرؤى والنصوص شعرا ونثرا واتفق معه في كثير من المواقف كما كان شأني معه، ثم أسعدني الحظ بمزاملته في العمل في وزارة الثقافة والإعلام، وبمشاركتي إياه الكتابة والنشر في مجلة اليمامة، إضافة إلى ما يسعفنا به الوقت من الزيارات واللقاءات، ولذلك تكون عبارات مثل (رفيق العمر) و(خدين الحياة) و (صفي الوجود) و(نديم المسيرة) صغيرة جداً في حق هذا الإنسان الاستثناء، غير أني سأتشبث بأنه الحبيب في كل ما سبق.
هذا على الصعيد والمستوى الإنساني، أما في فضاء الفكر والفن والتجلي الكتابي، فإن هذا العبقري يمتاز بميزة قل أن تتحقق لأحد من أرباب الفن والرسم بالكلمات، وهي أنه الساحر الآسر المذهل في النثر والشعر معا، فالمستوى المرعب الذي ستقف أمامه منتفضا في قصيدته هو المستوى ذاته الذي يفصلك عضوا عضوا بعد قراءتك مقطوعة من مقطوعاته النثرية مهما كان مضمونها، مثلاً: اقرأ قصيدته (وجه الشنفرى يملأ الأفق)، واطلع على مقاله الذي بعنوان (الهاتف) في زاويته (سماء ثامنة) في اليمامة، ثم انظر كيف يملؤك الألق والأريحية والنشوة والانعتاق من ربقة الوجود الذي تعيشه، ثم تأمل كيف ترفع يدك مفاخراً كل بقاع الأرض وجميع ساحات الدنيا بأن في بقعتك وعلى ساحتك فناناً كبيراً مثل عبد الكريم العودة.
من هنا، يملأ كل منا الغيظ والقهر والامتعاض والإحباط أيضا، عندما تكتظ صحفنا ومجلاتنا بالمتردية والنطيحة وما أكل السخف، وبالتافهين والمعاقين والمتخلفين وبالذين لا علاقة لهم بالكتابة من قريب أو بعيد (وقد نستورد من يكتب ويسود الزوايا)، في الوقت ذاته الذي لا يسأل أحد فيه عن قامة عظيمة وعبقرية نادرة مثل الأستاذ أبي إياد.
طبعا، نسجل مثل هذا الكلام في مثل هذه المساحة، ونردده في كثير من أماكننا ومناسباتنا، ثم ننثني على أكبادنا فليس هناك من تحولات إيجابية، والساحة الثقافية مليئة بالعجائب والغرائب، من ذلك - مثلاً - أن يؤتى بتافه ساقط ذي فكر عامي واهتمام مسطح ويمنح حيزا لتسجيل سخافاته، ويدفع له مقابل يشيب له العقل، فيما لا أحد يفكر في أن يمنح مبدعا وطنيا استثنائيا حقه في الحضور والكتابة والمقابل المحترم، وإذا كاشفت أحد المعنيين بهذه الكارثة ألقى إليك بسؤال لا طعم له ولا لون ولا رائحة (لماذا لا يأتي إلينا؟) فيما السؤال الحقيقي هو (لماذا لا تبحث المطبوعة عن الكتاب العباقرة وتمنحهم ما يستحقون، وتحفظ لهم كرامتهم؟).
لن أتمادى وسأكتفي بأن أشد على يد صديقي الغالي الأديب الأريب العذب الماهر الباهر الأنموذج الرمز (عبد الكريم بن حمد العودة المحيميد)، وأدعو له بطول العمر على خير، وبتمام الصحة والعافية ودوامهما.