الكاتبة تأخذ على عاتقها مهمة التفاصيل الدقيقة
توزع الكاتبة أسماء الزرعوني على القارئ من خلال عمل روائي وسمته بعنوان، «شارع المحاكم» توزع مهام الحكاية على شخوص متحفزين لقول الحقيقة، ومثقلين بوصايا الراوي الذي لا يترك شاردة أو واردة إلا ويستطرد فيها، بغية كشف الحقيقة أمام القارئ دون إطالة أو بناء هالات وحدسيات وتوقعات لا جدوى منها، إنما هي مشاهد ثابتة تسبر أغوار الحقيقة وتنتقي منها ما يفيد.
حكاية الأنثى الدافئة تستهل فيها الكاتبة أسماء حديثها عن الذكريات لترسم لنا عبر هذا المدخل قضية المرأة وعذابها، وحجم معاناتها ووجعها الذي يزدهر وينمو في الوجدان، ليأتي المحرك الرئيس منبئا عن حالة من الهياج العاطفي المعتاد لتنهل منه الكاتبة عن نوح شيق، وعفوي يعكس أبعاد الإنسان العفوي الذي لا يفرط عادة بتفاصيل حياته البسيطة.
فالمدخل أو السبب القوي لانفراط عقد التداعي الوجداني هنا هو زواج بنت الشخصية المحورية (سلوى) وتداعي الأفكار والعودة إلى حكايتها القديمة لتسردها للقارئ كاملة غير منقوصة، بل إنها حشدت في هذه التداعيات الكثير من الأحداث والقصص المشابهة، والشخوص الذين يتقاطعون مع تجربتها، فكانت مناسبة زواج ابنتها فرصة لعرض أو شرح تداعيات هذا الشرخ الوجداني الذي كون هذه الحكاية وبناها على معمار سردي حجارته تداعيات الذاكرة وقلق الماضي.
رواية «شارع المحاكم» تبرز حيِّز الزمن بحالة استلهام وجداني يتعلق في الماضي، ويرتكز في تفاصيله على المكان لاسيما شارع المحاكم الذي عاشت به البطلة أو الشخصية المحورية «سلوى» واستطاعت ومن خلال هذه الرواية أن تبرع في تأكيد تفاصيل المكان وتجلياته وتحولاته النوعية على ضفاف الخليج الذي تغيرت ملامحه مع طفرة الحياة المادية وتفجر النفط.
أسماء الزرعوني تأخذ على عاتقها مهمة التفاصيل السردية الدقيقة لأحداث أسرية واجتماعية متشابهة، ومتنوعة وذات دلالات فنية تريد منها بناء صورة متكاملة عن حياة المجتمع، حيث استلت من بيئة شارع المحاكم الغابر بأحداثه وقصصه ووجوه أهله في مدينتها القديمة التي باتت تتدفق عليها الوجوه من كل حدب وصوب حتى نقلوا لها الكثير من العادات والتصرفات الأليمة التي لم تألفها حياة أهل الخليج العربي الذين كان لهم خصوصية فريدة وتكتل اجتماعي مميز حتى زمن هذه التحولات الجديدة التي باتت تستوطن وتتشعب وتذيب الفوارق حد الإمحاء.
لغة السرد في هذه الرواية جاءت مزيجا بين مستويين، الأول لغة سرد حكائي يصطبغ بالهموم الأنثوية والأسرة والمجتمع ممثلة بشخصية «سلوى» ومن حولها من نساء وهي لغة بالغة الدقة والحذاقة والبحث عن كل شاردة وواردة في حكاية الإنسان على هذه الأرض المترعة بحكايات الإنسان وصبره وميله للحب والبساطة والتلاحم والتلاقي على محبة ووئام، أما المستوى الثاني فإنه يتجسد بلغة الكتابة التي اعتمدتها أسماء الزرعوني لتتوج هذه الأحداث والطرف والمواقف بمعيار لغوي مناسب لا إغراق فيه أو تفخيم أو تقعير إنما هي لغة كتابة مناسبة للحدث الذي عملت على استظهاره بشكل كامل لا لبس فيه .. فهي تريد من وراء هذه اللغة أن تكشف محاولات الحب حينما يسعى لأن ينتصر على مثبطات أخرى.
رواية «شارع المحاكم» تستطلع تفاصيل المكان - كما أسلفنا - لتجعله بيئة متكاملة العناصر من أجل بناء الأحداث بل ترسمها شاهداً قوياً ومؤثراً في تفاصيل هذه الحكايات الأليمة والمزلزلة، فلم تجد «الزرعوني» بداً من أن تقتفي حساسية الخطاب الماضوي لهذه المشاهد لتسعى إلى ربطها بالواقع المعاش حيث باتت المشاهد كحلقات متوالية بعضها يشد البعض حتى نهاية هذه القصة وربما تصبح هذه الأحداث على هيئة متواليات يتم بعضها بعضا أزمان لاحقة، لأن الكاتبة سجلت شهادتها على العصر من خلال هذه التماوجات الاجتماعية التي قلبت الموازين رأسا على عقب.
ورغم سعي الراوي لأحداث هذه الرواية أن يوجد قدر المستطاع مبررات فنية تخرج هذه الشخصيات من مأزق أخلاقية في أكثر من مرة على نحو حكاية «فهدة» وابنتها إلا أن العمل قدم صورة واضحة لسمات التحول المادي والاجتماعي في منطقة الخليج، لتورد الكاتبة أكثر من مشهد يعزز هذه الرؤية ويقدم مشهدا عاما تتجسد فيه صورة الحضارة وثمنها المحتمل حيث بات يدفعه البعض إما بجهل أو بما يشبه رغبة التحول أي كان ثمنها ومحتواها.
فكرة النص في هذه الرواية واضحة لا لبس فيها وهي متداولة ومطروقة إلا أن الكاتبة استخلصت من ركام هذه المشاهد الحياتية ما ينير لها طريق النص، لتكتب لنا هذه التجليات بلغة هادئة تميل إلى الأسلوب الأنثوي الشفيف الذي يتدفق عاطفة تستميل به القارئ وتستدرجه نحو مزيد من القراءة، وهذا ما برعت فيه أ سماء الزرعوني في حكاية شارعها القديم «شارع المحاكم».
** ** **
إشارة:
- شارع المحاكم (رواية) أسماء الزرعوني
- دائرة الإعلام والثقافة - الشارقة - (ط1) عام 2011م
- تقع الرواية في نحو (116صفحة) من القطع المتوسط