الناشر : دار الفارابي؛ بيروت 2014
«هؤلاء الذين نزلوا إلى الميادين، على حين غرة وبغير اتفاق مسبق، لم يكونوا يحلمون، بل كانوا يريدون التغيير مع نقص في الثقة بأنهم قادرون على اتخاذ مثل هذا القرار وتنفيذه؛ فهم ليسوا واحداً، وليس اجتماعهم دليل اتفاق على ما بعد لقاء المصادفة؛ لا بد من أن يتعارفوا؛ لا بد من أن يناقض بعضهم بعضاً لاكتشاف المشترك والمختلف عليه وحدود الاختلاف؛ فلا هم يأتون من ماض سياسي واحد، ولا في أذهانهم صورة محددة للخطوة التالية، والأخطر أن الوقت لم يتح لهم فرصة النقاش تمهيداً للاتفاق حول المستقبل. ثم إن البعض منهم يختزن تجربة طويلة كان لها منطلقها الفكري وكان لها سياقها العملي في مواجهة النظام الحاكم، بالمهادنة والمواجهة، بالسجن والنفي والاسترضاء بالنيابة والمشاركة الهامشية؛ في حين أن البعض الآخر يأتي مثقلاً بقراءاته وأحلامه للقفز إلى الذرى الديموقراطية بإرادة «الميدان» معززاً بإسناد الديموقراطيات الكونية بزعامة الإدارة الأميركية.
من قبل، وفي الماضي القريب، كانوا ينزلون إلى الشارع بالعاطفة، مرة، وبالأمر مرة ثانية : تنزلهم فلسطين في تظاهرة غضب على تقاعس أنظمة العرب وجبنها وعجزها عن مواجهة الاجتياحات الإسرائيلية التي تخطت القدس والضفة والقطاع إلى عواصمهم ذاتها، بل وإلى ما خلف العواصم وفوق الدولة.
أما المرة الثانية فحين ينزلهم النظام الحاكم في تظاهرة تأييد له ضد «الآخرين»، دولاً أو أنظمة متآمرة، أو جهات مشبوهة ربما كانوا «هم» تلك الجهات، فيها أو معها، في ذهن الحاكم!
إلى أين من هنا؟ ذلك كان السؤال المفجر، بعد أن افتدى النظام نفسه برأسه!
أما أهل النظام فقد صادروا الميدان «ها قد نجحتم فأسقطتم الطاغية! مبروك! أنجزتم مهمتكم المباركة، فارتاحوا ودعونا نستنقذ الدولة! الدولة ضرورة حياة بل هي مصدر الحياة. سنحمي نحن الدولة، واذهبوا فاتفقوا على نظامكم العتيد!».
أفرغ الشارع من أهله في العديد من العواصم العربية، فاحتله الجدل :
في ثلاث من أربع دول عربية نجحت فيها انتفاضة «الميدان» في إسقاط النظام، ضاع «النصر» وسط الزحام، وحل محله القلق والضياع وعدم وضوح صورة النظام البديل، وبالتالي افتقاد القدرة على إقامته بالسرعة المطلوبة وبالحزم الضروري.
وحدها تونس تبدو كأنها تخطت المأزق مؤقتاً ربما لأن نظام بن علي قد اختار أن يخرج إلى ثروته، خصوصاً بعد ما خذله الجيش الذي تبدّى أن «قيادته» الفعلية كانت في «الخارج» أكثر مما كانت في قصر قرطاج. ثم إن «ورثة» بن علي الذين عادوا من المنافي البعيدة كانوا قد وجدوا الوقت لتنظيم صفوفهم في ظل رعاية لم تتأخر في الإعلان عن ذاتها، ولا هم ترددوا في الإعلان عن برنامجهم من قلب واشنطن، مقدمين نسخة معدلة من برنامج الإخوان المسلمين في طبعة غربية منقحة ومزيدة، تطمئن باريس أولاً ومن خلفها الغرب كله، عبر تركيا اردوغان وقطر الشيخ حمد وبركاته المؤكدة بالحقائب السمينة!
السؤال : أي إسلام هو المؤهل والقادر على بناء المستقبل العربي في مختلف ديار هذه الأمة، التي تعيش في قلب الخوف بينما انتفاضتها تملأ الميادين وتسقط الرؤساء، في حين تجدد أنظمة الماضي ذاتها بالشعار ذي الوهج الديني مستحضرة مخاطر حروب أهلية لا تنتهي.».