«يرفُّ جناحا النحلةِ
ألطفَ داخلَ
شذا الوردةِ»(1)
تاكي نامي اكيرا – شاعر ياباني
يبدأ فصل الزهور في (كتاب الشاي) بمقطوعة نثريَّة في رثاء الزهور، إنَّ الزهرة – كما يرى الكاتب – كائن يجري إعدامه بسبب جماله، حادثة موت زهرة تبدو مروِّعة لأنها تتمُّ باسم المتعة، لا شيء سيمنع العالم من التضحية بالزهور، لكن يمكن أن نجعل طريقة موتها أقلَّ وحشيَّة، يمكن على أقلِّ تقدير الحفاظ على جسد الزهرة تحقيقًا لمبدأ: تقدير كلِّ ما هو (طبيعي وغير منسَّق) على نحوٍ يجسِّد (التصاق الإنسان بالطبيعة) كما يقرِّر المبدأ الجمالي في مذهب الزنِّ(2).
الزهور المجلوبة لتزيين حجرة الشاي اليابانية يجب أن تمثــِّل مبدأ الانسجام والالتحام التامِّ مع الطبيعة؛ فالزهرة هي ممثـِّلة الطبيعة في الحجرة، فعليها إذن أن تحافظ على هذا التمثيل، وأن تكرِّس مفهومي النقاء والبساطة: لا يجب أن تُهذَّب كثيرًا كيلا تغدو شيئًا مصنوعًا، أو منظَّمًا، أليس هذا هو ما نهرب منه إلى الطبيعة؟ ألسنا نبتغي شيئًا من الوحشيَّة، والبدائيَّة، والتمدُّد الحرِّ الذي نفتقده في المنظَّم والمصقول، والمحدَّد في حياتنا؟ وتبلغ العناية درجة تحسُّس مشاعر الزهرة، لا تـُحبَّذ التضحية بجسد الزهرة، بصقل الساق المبالغ فيه، كما لا يُحبَّذ ازدحام المكان بالزهور إلى درجة تـُفتقد معها ميزة الفردانيّة التي تمنح الزهرة نصيبها المستحق من التأمُّل، وملاحظة «الجمال الكامل للحياة النباتية»(3).
إنَّ قراءة هذا الفصل من الكتاب تثير في العقل مسألة علاقة الزهور بحادثة الموت بوصفها عنصرًا جماليًّا مصاحبًا لسوداويَّة الموت في البيئات (المزهرة) إن جاز التعبير: تلك التي تشكِّل الزهور جزءًا من ثقافتها، حيث تحضر الزهور في مجالس العزاء، وموكب الجنازة، والمقبرة، ويبلغ الأمر حدَّ مساهمة الزهور في سكِّ تعبيرات خاصَّة تستلهم موقف مصاحبة الزهور لحادثة لموت، وأذكر على نحوٍ خاصٍّ التعبير الدارج للدعاء في العاميَّة السوريَّة الذي لفتني كثيرًا حين سمعته للمرَّة الأولى وهو: «تشكل آسي»، وهو تعبير محبَّة يقابل ما نقوله في معنى (أن أموت قبلك)، أو (أن تقبرني)، أو (أن تحضر دفني)؛ فالاس المحمول هو علامة حدوث الموت، وحامله هو الباقي الذي أراد له محبّه البقاء، (الآس) إذن وسيط لغوي يعبِّر عن معنى (الموت) في جملة تخلو تمامًا من ذكر (الموت)، وتتحقَّق فيها اللطافة اللغويَّة المخففة التي يمنحها (الآس) لفكرة الموت القاسية.
تقدير الفنِّ:
أيُّ شيء علينا أن نقدِّره في الفنِّ؟
يطرح المؤلِّف أيضًا فكرة حفظتها المذاهب المؤسسة لعلم جمال الشاي حول مسألة تقدير الفنِّ، وهي فكرة (الفرديَّة) المستقلَّة في الشعور به، وتحديد قيمته؛ لأنَّ «الفنَّ قيِّم فقط إلى الحدِّ الذي يخاطبنا فيه»(4)، ولذلك نجده يطرح هذا التعبير الذي يرتكز على أنَّ تواصلنا مع تحفة ما هو الذي يعطيها قيمتها؛ «نحن التحفة»(5)، فالقيمة هي في الشعور بهذا المادي لا في المادي ذاته، والتحفة هي التي تخاطب الروح على نحوٍ فردي، وهي التي تشعُّ جمالها الخاصَّ ليس لأنـَّها تحظى بتقدير الأغلبيَّة، أو لأنها باهظة الثمن، بل لأنـَّها تمسُّ الشعور، وليس لأنـَّها قديمة أو أثريَّة بل لأنـَّها «انعكاسنا الخاصُّ»(6)، وليس لأنـَّها شعبيَّة ورائجة بل لأنـَّها تؤكِّد فرديتنا.
في مسألة (الأشياء) فإنَّ الإضرار بالفرديَّة يقع عند تقدير المقدَّر سلفًا لأنـَّه مقدرٌ فحسب، وليس لأنَّ الفرد يعيد اكتشافه ليضع تصوَّره الخاصَّ: تقديره الفريد، ما يحدث الآن هو أنـَّنا بتنا دارجين في سياق الفكرة الدارجة عن الشيء، نصبح جزءًا من رواجه: جزءًا عدديًا يؤكِّد كثافة تقديره، لكنـَّه لا يفسِّره، ألا يجب أن يزعجنا التماثل المسخي في اقتناء الأشياء (الملابس، والحقائب، والتحف المنزلية)، وفي تقديرها لأنَّ رواجها عاصفٌ على نحوٍ لا يسع الإنسان مقاومته؟!
أسئلة الختام:
ما الذي يدفع كاتبًا يابانيًا يقيم في الولايات المتحدة إلى تأليف كتاب عن (الشاي) بغير لغته؟
إنَّ أوكاكورا كاكوزو الذي انتقل إلى الولايات المتحدة مطلع القرن الماضي تؤلمه الأفكار المشوَّهة، والمؤذيَّة التي لا تفهم روح الشرق وتصوِّره همجيًّا، بدائيًّا، يرى الكاتب أن الغرب لا يبذل جهدًا كافيًّا من أجل تفهُّم الآخر، ومن هنا يأتي كتاب الشاي احتجاجًا على هذه الصورة النمطيَّة، إنـَّه احتجاج عبر الإحلال: إحلال صورة جديدة مكان صورة أخرى، أوكاكورا مستندًا إلى تفاصيل صغيرة في الحياة اليوميَّة اليابانيَّة يعرِّف الغرب على المفاهيم الكبرى التي تشكِّل الهويَّة. وهنا يحلُّ سؤال آخر: كيف نعالج مسألة الصورة النمطيَّة المشوَّهة؟
في مسألة الآخر تنطبع صورة نمطيَّة شديدة الرسوخ، لدينا هذه الفكرة عن شعوب بعينها، تتشكَّل الصورة النمطيَّة مستندة إلى تفاصيل الهويَّة، هذا الذي يتكون في وعينا عن الآخر، أو في وعي الآخر عنا هو أمرٌ له جذوره، وفي مسألة الهويَّة (السؤال) يبدو الحلُّ السهل للتخلُّص من مشكلة الاختلاف هو نفي الاختلاف، إن كنـَّا نرتدي زيًّا (غريبًا) ويلفت الأنظار على نحوٍ غير محبَّب، فسيغدو أمرًا سهلاً أن نخلع هذا الزي، وأن نتخلَّص من هذا الذي لا يريحنا في نظرات الآخرين، إنَّ الذي يبدو (غريبًا) يحتاج أن يـُفسَّر كيلا يعود غريبًا، هل التفسير أمرٌ أصعب من التحوُّل؟ هل تبديل الصورة أيسر من شرح تفاصيلها من خلال الكلمات؟
ففي النهاية ما هي الهويَّة إلاَّ هذه السمة التي تميِّزنا عن غيرنا، هي ذاتنا وما نحن عليه(7)، بزوالها لا يبقى ما هو قيِّمٌ فينا، ألا يتطلَّب الأمر بعضًا من الجهد كي تتعزَّز الهويَّة بالتعمُّق في تفاصيلها واستظهار الجمال الكامن فيها، وتقديمه على النحو الأكمل؟
إنَّ احتمال رؤيتنا لحجرة الشاي اليابانيَّة بكلِّ ما تنطوي عليه من تفاصيل احتمال غير بعيد، لكنـَّنا على الأغلب لن نتوصَّل إلى المفاهيم التي شكِّلتها على هذا النحو دون أن يقدِّمها الكتاب، دون اللغة التي تمنح المعنى وجودًا آخر من خلال القبض على انعكاسه في المادي، وحتى مع افتراض زوال الموصوف، أو اضمحلال المفهوم المشكِّل لتفاصيله فإنَّ اللغة تكفل بقاءه ضمن حيِّزها، سيتاح لأيِّ قارئ استكشاف الحجرة من خلال الكتاب الذي يحفظ ما كان موجودًا وعُدم، وما هو متوقَّع الزوال في أيِّ لحظة كما هي حجرة الشاي اليابانيَّة، ما من مكان حينئذٍ إلاَّ ذاك الذي أشار إليه ميشيل فوكو بـ «لا مكان اللغة»(8)، إنَّ الشيء يمكن أن يكون حاضرًا ليس بشكلٍ ملموس بل في قوَّة حضور اللغة، في تعبيرها عنه، في تلوُّنها به حين تكون المفاهيم شديدة الحضور في الأشياء على النحو الذي نجده في (كتاب الشاي)، فتعبير مثل «مفعم بالشاي»، أو «خلو من الشاي»(9) في وصف الإنسان ينزع المادي من الشاي ليغدو معنًى خالصًا يدلُّ على الامتلاء بمعنى من المعاني، وتغذِّي الروح به، بهذا يحكم مثلث (المعنى، والمادة، واللغة) اتصال أضلاعه؛ فلا تبدو اللغة أمرًا خارجًا أو منفصلاً بل شديد الاتصال بالمعنى، وتمثــُّله المادي.
ويبقى سؤال أخير: هل نحن ممثــَّلون بشكلٍ كافٍ في المادي من حولنا؟ هل تعكس التفاصيل التي حولنا ما نحن عليه فعلاً؟ هل تمثـِّل الأمكنة عاداتنا؟ هل غدت الأمكنة أكثر جسارة على وأد هذه العادات؟
نحن نحبُّ عاداتنا لأنها تمثـِّل – بالنسبة إلينا على الأقلِّ – انتظامًا فيما يبدو عالمًا من الفوضى، والاضطراب!
في القهوة العربيَّة – مثلاً – كثيرٌ من عناصر هويَّتنا: هناك في الجانب الروحي العدد المفرد لحبَّات التمر الذي يلازم القهوة، وهناك الحركات الطفيفة والإيماءات الاجتماعيَّة التي تواترت وصارت جزءًا من (لحظة القهوة) إن جاز لنا التعبير، وهناك تلك الحميميَّة التي يوفـِّرها الاجتماع، وتبادل الأحاديث، هناك تصوُّراتنا الخاصَّة التي لا نفتأ نؤكِّدها: إنَّ تناولنا القهوة منفردين لا يمنحنا المتعة، والشغف الكافيين، هل يجب علينا أن نقلق من انتشار النمط السريع لتناول القهوة الذي يسمح بالأكواب الورقيَّة، ولا يحتفل بالغليان، ولا يركِّز في انضباط النكهة، أو مقدار القهوة في الفنجان، أو حتى في تفاصيل عناية المضيِّف بضيفه؟ إن غياب تفاصيل الحدوث يقتطع كثيرًا من هويَّة الحادث، لا يكون الشيء هو نفسه دون تفاصيله الدقيقة هذه التي عبرت إليه من خلالنا، وبما تركناه فيه من روحي ومعنوي كي يمثـِّلنا، أسوأ شيء يمكن أن يحدث للتفاصيل الماديَّة الصغيرة في حياتنا هو أن يخرس هذا الماديُّ، فلا يعود ينبس بالمعنى الذي صنعه!
** ** **
الهوامش:
(1) هايكو: مختارات عالميَّة معاصرة، ترجمة: جمال مصطفى. طوى للنشر والإعلام، ط1، 2011م. ص99.
(2) معتقدات آسيويَّة: العراق فارس الهند الصين اليابان (موسوعة الأديان القديمة)، د. كامل سعفان، دار الندى، ط1، 1419هـ-1999م. ص332-333.
(3) كتاب الشاي أوكاكورا كاكوزو، تقديم وترجمة: سامر أبو هواش، مشروع كلمة للترجمة – هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، ط1، 1430هـ–2009م. ص84.
(4) نفسه ص73.
(5) نفسه ص69.
(6) نفسه ص75.
(7) تورد المعاجم، والموسوعات الفلسفيَّة عدَّة تعريفات للهويَّة منها:
«ميزة فرد أو كائن» انظر: موسوعة لالاند الفلسفيَّة، أندريه لالاند، ت: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت – باريس، ط2، 2001م. 2/607.
«حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره» انظر: المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1403هـ -1983م. ص208.
(8) الكلمات والأشياء: أنطولوجيا العلوم الإنسانيَّة، ميشيل فوكو، ت: مطاع صفدي وآخرين، مركز الإنماء القومي، لبنان، ط2، 2013م. ص29
(9) كتاب الشاي ص11.