ليسمح لي القارئ الكريم بأن أضع في مطلع هذا المقال قول الشاعر:
متى يصل العطاش إلى ارتواء
إذا استقت البحار من الركايا
للثقافة أمراضها وعللها التي تظهر واضحة كالشمس في المجتمعات المتأخرة وتدق وتخفى في المجتمعات المتطورة حتى تحتاج إلى مجاهر خطابية خاصة لاكتشافها فالإنسان يبقى هو الإنسان الذي يحتاج دائما إلى مصارعة الجانب المظلم منه.
وإذا كانت الجائزة هي نوع من التكريم مقابل إنجاز ما مثّل إضافة نوعية في مجاله أو في المجال الإنساني بمفهومه العام، فإن من الواجب أن تكون الجائزة مستقلة ومتعالية عن الانحيازات، وأن تكون أسسها في المنح وأسسها في التحكيم وأسسها في كيفية الاحتفال بالمنح قوية وشفافة وواضحة، وأن تكون الجائزة في المجمل دافعة إلى المزيد من التحضر والجمال والثقافة.
في المجتمعات المتأخرة عادة ما تفقد الجوائز معناها وأسسها وفلسفتها وقيمتها لتكون مجرد أداة تستعمل أحياناً للتمويه بالتحضر والتطور دون أن يكون هنالك فعلاً تحضر أو تطور، أو تستعمل في بعض الأحيان كأداة تشترى بها النفوس ويشترى بها الثناء الكاذب أو على الأقل السكوت عن سواءات المانحين.
ومهما قيل عن أن الجوائز لا تكون بريئة من الانحياز بإطلاق، فإن مما يقلل هذا الانحياز (الذي بعضه انحياز ثقافي غير مقصود) عدة اعتبارات، أهمها: نزاهة القائمين على الجائزة، واستحقاقهم من خلال تأريخ واضح وناصع وكبير لتولي عملية المنح،فلن يكون لجائزة قيمة مثلاً حينما تمنح من سفاح وإن كانت في مجال الطب أو في مجال حقوق الإنسان، ولن يكون لجائزة قيمة حينما تمنح من جاهل دعي وإن كانت في مجال الثقافة الرفيعة، وهنا قد تتحول الجائزة لتكون مجرد هدية أو مجرد مكافأة أو مجرد أداة للتمويه بالتحضر وهو الأكثر، ويلي ذلك من الاعتبارات، قوة إجراءات التحكيم المؤسسية التي يقوم عليها الاختيار، وتأتي تلك القوة من وضوح إجراءات الترشح ووضوح أسس الاختيار، والاعتماد على محكمين أكفاء، وكل ذلك يتم من خلال إجراء مؤسسي لا تدخله الاعتبارات الشخصية. ثم إن الإجراءات التي تقوم حتى وإن كانت مؤسسية وهي عادة ما تتم صوريا أو شكليا في إطار مؤسسي فلن يكفي ذلك دون وزن قيمة المؤسسة المانحة الجائزة في إطار منظومتها الحضارية بإجمال، وفي إطار منظومتها التي تشتغل ضمنها آنياً.
ولقد كثرت الجوائز في الآونة الأخيرة خصوصا في الأندية الأدبية (حتى قلت قيمتها)، بيد أن تلك الجوائز أبانت بجلاء عن الخلل المستشري في المؤسسات المانحة لها وهي الأندية الأدبية، وأبانت تخبط تلك الأندية في كل الاعتبارات التي تتشكل الجوائز لأجلها، وأبانت كذلك عن قصور وضعف وعدم نضج المانحين، حتى وإن وضعوا إجراءات شكلية لما تقوم عليها الجوائز من تحكيم وغيره.
والسبب الرئيس في ذلك في نظري يعود إلى الخلل في التركيبية الثقافية بشكل عام وإلى الخلل في التركيبة المؤسسية للأندية الأدبية خصوصا، التي كُشف تهاويها وكشف التدخل غير المؤسسي القوي فيها، مما حفر في الوعي الثقافي حفرا عميقاً عدم جدارة القائمين في الأندية الأدبية للقيام بمنح جوائز بل إن الإكثار من تلك الجوائز هو عَرَضٌ ثقافي كبير بعد فترة كان التفكير في منح جائزة ولو كانت قلم باركر يمر بتعقيدات كبيرة...، شحت بسببها في زمن سابق الجوائز لتظهر ظهورا طفرياً في كثير من الأندية، وأعتقد أن لذلك أسبابا منها احتواء المتغيرات الجديدة... ومنها التغطية على تهاوي المؤسسة الثقافية ممثلة في الأندية الأدبية.
ليست فضيحة جائزة نادي أبها...ولا فضيحة نادي الطائف ممثلة في الشيك الكبير الذي يحمله الفائز بها على طريقة سباق الخيول...، ولا فضيحة نادي الرياض التي اعتقد أنها استمرت قبل الفضيحة الأخيرة فهي ليست قوية منذ بدايتها الأولى...، ولا فضيحة نادي جازان...، ولا غيرها من الفضائح التي ظهرت والتي ستظهر كافية لزحزحة ممثلي الأندية الأدبية عن صفاقة التشبث بالبقاء مهما كان النقد ومهما كانت الحقيقة وليست كافية للقيام باعتذار للمثقفين عن الإخفاق في التنظيمات الجديدة للمؤسسة الثقافية ووعد بالتغيير إلى الأفضل مع اعتراف بالخطأ، بل إن الجوائز الأدبية هي جزء من شرعنة الوضع الحالي للأندية الأدبية ، وهي وسيلة لتغطية ما يجب تغطيته أو يجب أن يمر برغم كل الفضائح في تجاهل لعقل لمثقف ووعيه.
أما القبول بتلك الجوائز أو القبول بالتكريم أو حتى الاستضافات التي تقدمها تلك الأندية فهو خاضع في نظري لمستوى تقدير الشخص (المكرم) لذاته، وللأثر المترتب على القبول، والذي أشعر به (مجرد شعور) أن صراعا نفسيا وفكريا قويا ينشأ عند البعض في مسألة كهذه، في حين تمر على البعض دون أدنى اهتمام من تخدير الاهتمام بكل ما يستحق الاهتمام. في حين أن بعض المثقفين المستفيدين من الوضع القائم ربما يكونون أكثر حرصاً على بقاء الأندية الأدبية وجوائزها بهذا المستوى لأنها في مستواهم الحقيقي تماماً.
ويستمر مسلسل فضائح التكريم أوالجوائز من خلال نادي الباحة الأدبي ليمنح تكريما لشاعرين من المنطقة ويقيم احتفالية يجمع فيها ستين ألف وردة ووردة !!، لن أقف على الأسماء فأنا أقدر لها تأريخها، ولكن حين ننظر في مسوغات التكريم نجدها متناقضة أشد التناقض ومتخلفة أشد التخلف، فأحد الممنوحين (شاعر) تقليدي من شعراء الصحوة، والآخر (شاعر) تجاوزي من شعراء الحداثة، فعلام قامت أسس المنح؟!
هل قامت على تقسيمات قبلية قد تكون هي مبلغ القائمين على منح الجائزة في نادي الباحة من العلم ومن الثقافة ومن التحضر أو على أي أسس قامت ؟!
ثم ما الإجراءات المؤسسية التي تمت في النادي لاختيار تكريم المكرمين، وهل النادي الذي يدار بتشكيلة ضعيفة قامت منذ البداية على المحسوبية وعلى العلاقات ومستواها الثقافي والعلمي محدود قادرة حتى على اختيار المحكمين المناسبين لجوائزها ولمكرميها ولكتبها.
إن تكريم نادي الباحة لبعض الشخصيات الثقافية من المنطقة بهذه الطريقة وجمعه لستين ألف وردة ووردة من أنحاء الوطن هي نوع من التغطية والشرعنة لوضع القائمين على النادي في أماكن لا يستحقونها ونوع من الإصرار على البقاء في ظل هذا الوضع ونوع من فرض هذا الوضع، ونوع من الهدر المالي غير المخطط له ليكون في جوانب أكثر فائدة للثقافة وللنادي وللمنطقة التي فيها النادي.
ولذا في مقابل ما نراه بعامة من مسلسل جوائز الأندية الأدبية الضعيف إخراجاً وتمثيلاً لابد من إعادة النظر في فلسفة الجوائز التي تمنحها وزارة الثقافة والإعلام وحصرها في الوزارة نفسها واستحداث مؤسسة خاصة بها لتكون لتلك الجوائز قيمة كبيرة ولتكون إجراءات نجاحها أكثر من توقع إجراءات إخفاقها...
إن الارتواء الثقافي يحتاج إلى تخطيط ثقافي سليم، يقوم أول ما يقوم على الارتقاء بالمجتمع للوصول إلى تلك المرحلة، ولن يتم الوصول إليها إلا من خلال تنظيف المؤسسات الثقافية قبل كل شيء من الشوائب المجتمعية لتؤدي عملها الثقافي بما فيه منح الجوائز التي مهمتها الأولى في نظري هي الدفع قدما بنا إلى معارج التحضر والثقافة والعلم والفن لا تثبيت الوضع القائم بما فيه من تشوهات.