Saturday 01/11/2014 Issue 449 السبت 8 ,محرم 1436 العدد
01/11/2014

شيخ الواقعية.. توقعات وخيبات

منذ نصف قرن تقريباً كان الديبلوماسي الفطن العميق الرؤى هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق واحداً ممن انتهجوا مبدأ الواقعية أساساً لتخطيطه لما يفترض أن تكون عليه سياسات الولايات المتحدة من جهة، بل والسياسة الدولية بكاملها، بوصفها القوة الكبرى والمهيمنة في الساحة الدولية. ولا يغيب عن البال أن كثيراً من التصورات التي وضعها مخططو السياسة الأمريكية آنذاك للعلاقات الدولية، أو كانت سائدة في مستوى الرؤية السياسية أو التخطيط الدولي لأي من الهياكل المبتغاة في علاقات المجتمعات مع البيئة المحيطة بهم من جهة، ومع الآخرين الذين يشتركون معهم في المكونات الوجودية المختلفة من جهة أخرى؛ هي التي كونت فكر كثير من المنظمات والجمعيات الدولية.

فالرؤساء الأمريكيون وقادة العالم الآخرون العظام، الذين حققوا طفرة كبيرة في تقارب الكتل الدولية الكبيرة بعضها مع بعض، لم يكونوا ليحققوا ذلك إلا نتيجة وجود مثل هؤلاء المفكرين السياسيين (المنطلقين في سياساتهم واستراتيجياتهم من رؤى واقعية)، مثل: هنري كيسنجر في أمريكا وأندريه جروميكو في الاتحاد السوفياتي وهانز ديتريش جنشر في ألمانيا.

فقد تكونت لدى هذه النخب السياسية المفكرة نواة صلبة من الأطروحات المتعددة؛ تعتمد في أسسها على مبادئ وستفاليا للنظام العالمي، الذي أنهى حرب الثلاثين عاماً في أوربا سنة 1648م. وهو الذي ينص على أن أهم مشكلات السياسة ليست في ضبط الشر، بل في تحديد مجالات الخير»؛ ومن هذا المنطلق كانت أطروحة شيخ الواقعية في عصرنا الحاضر (هنري كيسنجر) سنة 1950م عن «معنى التاريخ»؛ حيث ربط فلسفات إيمانويل كانط وأوزفالد شبينجلر وآرنولد توينبي، مع استخلاص للأفكار من ديكارت وديستويفسكي وهيجل وهيوم وسقراط وسبينوزا، وكل ذلك بصحبة مفاتيح من النوع الفاخر للشعر العالمي ممثلة في دانتي وهومير وميلتون وفيرجيل. ويقول عن تلك الأطروحة: «كنت في الصغر أظنني أستطيع أن أفتخر بمعرفتي التاريخ؛ أما الآن، فإني موقن بأن معنى التاريخ أمر قابل للاكتشاف دوماً وأبداً».

فماذا عن عهد الفوضى في زماننا الحالي؟ فبعد أن صارت الرؤى الحالمة هي منطلق كثير من الساسة المؤثرين في رسم الاستراتيجيات الدولية، أصبحنا نجد رؤساء مخابرات وبعض الأراجوزات يتبوأون مراكز القرار، دون أن يحيطوا أنفسهم بمثل تلك العقول، التي تمنحهم الحصانة عن أن يسقطوا في مطبات الرؤية القصيرة أو عدم التنبؤ بما وراء الأكمات. وفي كثير من الأحيان نجدهم يغيرون مستشاريهم ووزراء خارجيتهم مثلما يغيرون مدراء مكاتبهم أو أثاث منازلهم. لو كان العالم يملك رجالاً في دفة قيادة الديبلوماسية الدولية من ذلك الطراز، ما التفت حول أعناق العالم حالياً أزمات غبية من نوع الأزمة السورية أو الأوكرانية. فالمقاصد السياسية لعضو في برلمان، أو حتى لرئيس في بلد صغير غير مؤثر، تختلف عنها في قيادات دولية كبيرة. هل كان كيسنجر سيقبل بصناعة سياسة أمريكية هشة في منطقة الشرق الأوسط، مثل هذه التي صنعها من أتى بعده من أصحاب الكراسي المؤقتة من الديمقراطيين أو الجمهوريين؟ وهل كان شخص مثل أندريه جروميكو سيغامر بسمعة بلده، كما يفعل خلفه الآن في روسيا من أجل إثارة القلاقل في بلد مجاور ومهم مثل أوكرانيا؟ بالتأكيد أن غياب الواقعية عن رجال السياسة الحاليين هو ما يصنع هذه الأزمات، ويفاقمها، لأن تردد القادة أيضاً ناتج عن عدم وضوح الرؤية، الذي هو من مهمات قادة الديبلوماسية مع فرقهم المتعددة الواجبات، لتهيئة البيئة المؤاتية لاتخاذ القرار المناسب. وفي ظل غياب ذلك التجهيز، فإن العالم مقبل على أزمات عديدة ستعيده إلى مراحل الصراع الأولى!

- الرياض