حقيقة يمكننا القول وبكل جرأة إنّ رباعيات الخيام أضحت إحدى المشكلات التي يواجهها الأدب الفارسي المعاصر، وعلة ذلك سببان أولهما: أن الخيام توفي ولم يترك لنا مجموعة شعرية مكتوبة بخط يده، ولم يُعرف عن الخيام أنه شاعر وله رباعيات أثناء حياته، وأول مجموعة عثر عليها كانت بعد ثلاثة قرون من وفاته، وثانيهما: أن هنالك عدداً كبيراً من الرباعيات المنسوبة للخيام وصلت إلى الآلاف يصعب التمييز بينها وبين الرباعيات الحقيقة؛ وقد كان المستشرق الروسي جوكوفسكي أول من أشار إلى هذه الرباعيات المنسوبة؛ إذ صرَّح في دراسة له بوجود 82 رباعياً من الرباعيات المنسوبة للخيام في دواوين شعراء آخرين، من بين 464 رباعياً هي التي ذُكرت في مجموعة المستشرق الفرنسي نيكولاس التي ترجمها إلى اللغة الفرنسية عام 1867م، وقد سمّاها جوكوفسكي «الرباعيات المضطربة» أي المتعددة النسبة، ثم وصل العدد إلى أكثر من مئة رباعي لدى بعض المستشرقين الآخرين، وللتغلب على هذه المشكلة وتشخيص الرباعيات الصحيحة من السقيمة، اتبع محمد علي فروغي وقاسم غني في كتاب «رباعيات الخيام» منهجين أحدهما استقرائي والآخر ذوقي، بعد أن ذكرا عيوب المناهج الأخرى التي درست هذه القضية، وحاولت التغلب على هذه المشكلة؛ فقد تمثّل المنهج الأول القائم على البحث والاستقصاء والاستقراء بمحاولة استخراج الرباعيات الأصيلة من الرباعيات السقيمة، وتتبعها في أقدم المصادر والمراجع التي ذكرت بعضها في القرنين السابع والثامن للهجرة، وبعد حذف المكرر منها وصل العدد إلى 66 رباعياً، استخرجا منها معايير وقواعد لضبط ومعرفة الرباعيات الصحيحة من المنسوبة، واتخذا منها معياراً عرضا عليه الرباعيات المتعددة النسبة، وهو المنهج الثاني فما توافق معها جعلاه للخيام، وما اختلف عنها وضعاه جانباً، فوصل العدد إلى 178 رباعياً يمكن الاطمئنان إلى أنها للخيام، ولا يمكن الجزم بذلك، كما قال محمد علي فروغي نفسه؛ في حين زعم صادق هدايت أن الرباعيات الحقيقية ثلاثة عشر رباعياً فقط، وهذا الرأي السقيم خاص بصادق هدايت وحده ولا يعتدّ به، والأرجح ما ذهب إليه محمد علي فروغي، ولابدّ من التنبيه هنا إلى أن هذه الرباعيات المنسوبة للخيام ظلماً وعدواناً -وأغلبها من الخمريات- كانت أحد أبرز أوجه الظلم، الذي لحق بالخيام وشوه صورته في الأذهان.
لقد تعددت أوجه وجوانب الظلم التي وقعت على الخيام، ومن هذه الأوجه التي ظلم بها زوراً وبهتاناً وافتراءً تلك الأساطير والخرافات التي نسبت إليه، ومن أشهرها المتعلقة بتوبته؛ فقد نسب مخالفو الخيام إليه هذه الأسطورة، وكأنهم رأوا أن الخيام ارتكب من الخطايا والذنوب ما يستدعي منه التوبة للتكفير عنها في نهاية حياته، ولكن السؤال الذي يبرز هنا ما هو الذنب الذي ارتكبه الخيام؟ وهل هذا الذنب يستدعي التوبة والاستغفار؟!.. والجواب أنّ الخيام فيلسوف متفكر في هذا الكون، ومجرد التفكير والتساؤل عن هذا الكون والوجود لا يعدّ ذنباً يجب الرجوع عنه، والاستغفار منه؛ فكانت هذه الأسطورة الواهية التي نسجتها بعض النفوس السقيمة، والخرافة الساذجة التي لا تقبلها العقول السليمة، إذ روي أن الخيام كان قد جهّز وسائل الشراب وسفرته في ليلة من الليالي، فهبت الريح وكسرت ما هيأه فأنشد إحدى الرباعيات، وما أن انتهى من إنشاد هذا الرباعي حتى أسّود وجهه؛ وعندها أدرك خطورة ما تفوه به، فسارع إلى الاعتذار والتوبة عمّا بدر منه.. وأنشد رباعياً آخر كفارة عن خطيئته، وما أن انتهى الخيام حسب هذه الأسطورة من إنشاده الرباعي حتى أبيضّ وجهه مرة أخرى، ويا لها من أسطورة طفولية؟!.
لابدَّ من التأكيد هنا أنّ حديث عمر الخيام عن الجنة والنار، والثواب والعقاب، والبعث والنشور، وتساؤله عنها لا يعني بأيّ حال من الأحوال أنه منكر لها، كما تصور بعض النقاد والمترجمين، وعدّوه كافراً بها وجاحداً لوجودها؛ إذْ إنَّ تساؤله عن الكون والوجود، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والبعث والنشور هو تساؤل الفيلسوف الباحث عن أسئلة لأجوبته، حتى يقتنع بها، ويكون إيمانه بها عميقا،ً وعن وعي وإدراك لحقائق الكون واكتناه أسراره.
ومما يجدر ذكره أن منظمة اليونسكو قد خصصت يوم الثامن عشر من أيار من كل عام للاحتفال باليوم العالمي للخيام، اعترافاً منها بهذا الشاعر الكبير، الذي ملأ الدنيا وشغل الشرق والغرب، ولعل هذا التكريم جاء نوعاً من الانصاف، وردّ الاعتبار للخيام الذي ظلم على مدى القرون ومختلف الأجيال، وقد لاقت هذه اللفتة من قبل هذه المؤسسة صدى طيباً في العديد من الدول؛ إذ يتمّ سنوياً الاحتفال بهذا الشاعر الكبير في مختلف أرجاء المعمورة، وهذا هو التاريخ الدقيق لولادة عمر الخيام؛ طبقاً لما توصل إليه مجموعة من المستشرقين الروس، وهو الأول من ذي الحجة سنة 439 للهجرة الموافق لـ 18-5-1048 للميلاد، كما حددوا وفاته بسنة 526 الموافق لـ 1131م.
وأخيراً فقد كان عمر الخيام من الشخصيات التاريخية القلقة التي أرقها مصير البشرية، والنهاية المأساوية التي سيؤول إليها جميع أفرادها ألا وهي الفناء والموت، فراح يتساءل عن لغز الموت الذي حيَّر الفلاسفة والعلماء.. فهو الذي عبرّ عن آلام الإنسانية ومعاناتها ولواعجها، وكان الناطق باسمها على مرّ التاريخ، وهو الذي طرح أسئلة الكون والوجود، والموت والحياة، في محاولة منه للإجابة على الهواجس التي شغلت أذهان البشرية وأفكارها منذ الأزل، على الرغم من كل الظلم الذي لحق به سواء في حياته أو مماته؛ وإذا كانت الرباعيات هي التي خلّدت اسم الخيام وحفرته في ذاكرة البشرية وأبنائها، وحقّقت له هذه الشهرة العالمية من جهة، فإنَّ الرباعيات المنسوبة، وترجماتها، والفهم الخاطىء لبعضها، وتأويلها، وتفسيرها هي التي جرّت على الخيام ما جرّته عليه، وهي التي كانت سبباً في الظلم الذي لحق به، ومن ثمّ شُوهت صورته في الأذهان ظلماً وعدواناً من جهة أخرى، وحريٌّ بنا اليوم أن نعيد قراءة رباعيات عمر الخيام مرة أخرى، حتى نصحح كثيراً من المفاهيم والأوهام الخاطئة، التي شاعت حول شخصيته ورباعياته، باعتباره فيلسوفاً حرّاً يطلق لأفكاره العنان، ويمنح نفسه الحرية الكاملة في التفكير دون شروط وقيود، ونميط اللثام عن كل التهم والافتراءات التي أُلصقت به، ونرفع عنه هذا الظلم وسوء الفهم، ومن ثمّ ننصف هذا الفيلسوف الذي ظلم من أبناء جلدته، ومن المستشرقين الغربيين على حد سواء.
** ** **
ملاحظة:
هذه المقالة خلاصة الندوة التي أقامها الملتقى العلمي في رحاب كلية اللغات والترجمة - جامعة الملك سعود والتي أدارها الزميل الدكتور بدر العكاش، لقراءة المقالة كاملة يرجى الرجوع إلى موقع الدكتور بسام علي ربابعة على الرابط التالي:
http://wwwdrrababah.blogspot.
com/2013/12/blog-post_1292.html