نواصل مع الحلقة الثانية من بحث فريد ونادر للدكتور نبيل دجاني، وهو أستاذ الدراسات الإعلامية في قسم العلوم الاجتماعية والسلوكية في الجامعة الأميركية في بيروت.
شارل أيوب يعترف بقبوله رشوة...
ولكن مهلا: إنها مجرد تبادل مصالح!!!
... وهنا جزء من مقال شارل أيوب:
«... ذات يوم اتصل الشهيد اللواء وسام الحسن، وسألني إذا كنت أستطيع أن أكون في صحيفة «الديار» في خط وسط بين «8 آذار» و«14 آذار»، فأجبته: أستطيع، فقال وماذا ستفعل «8 آذار»، قلت أنا على ثوابتي طالما ذلك لا يسبب خلافا مع «8 آذار». وفي ذات الوقت أكون على ثوابت معكم في «14 آذار». ضرب الرئيس الحريري يده على صدره، وقال أدفع 150 ألف دولار في الشهر مقابل إبراز أخبار «المستقبل» وعدم الهجوم على «14 آذار» في صحيفة «الديار». طبعاً، الناس تقول وتتحدث عن قبض الأموال، ولا تتحدث عن «تبادل المصالح» لموقف معنوي لجريدة هو «أهم» بكثير من ملايين الدولارات مقابل مبلغ يشتري فيه صاحب الجريدة ورقاً ومطبعة ويدفع قسماً من الرواتب.
ثم لاحقا قال الشهيد اللواء وسام الحسن، نحن نضع أيدينا في يد غيرنا ولا نسحبها، والشيخ؛ أي الرئيس سعد الحريري صادق (HONEST)، وقال لي إن المبلغ سينزل من 150 ألف دولار إلى 100 ألف دولار مقابل الأخبار الجيّدة (غير الكاذبة) عن «14 آذار» ، في 6 صفحات يوميا في جريدة الديار.
(ولاحقا) اتصل بي الشهيد اللواء وسام الحسن، وطلب مني الحضور إلى «شعبة المعلومات» في المديرية العامة للأمن، وأبلغني أنه كان في باريس واجتمع مع الرئيس الحريري وقررا إلغاء المساعدة، وسألت عن السبب فما وجدت جواباً، إلا أن الرئيس سعد الحريري أحواله المالية ضيّقة، أما بالنسبة لـ «الديار» فالتزمت أنها كانت في الوسط بين «8 آذار» و«14 آذار» ، وخسرت ألفي عدد يوميا بسبب هذه السياسة، ثم إن «الديار» التزمت باحترام نشر أخبار «14 آذار» وثالثا، كما طلب حرفياً الشهيد اللواء وسام الحسن أن تكون جريدة مسيحية في الوسط وليست ضد «14 آذار». وهذا ما حصل وقلت للشهيد إني متفاجئ بقطع المساعدة ولم يحصل أي خطأ من قبلنا. فقال ليست المشكلة بخلاف أو خطأ منك، بل على العكس أنت صادق لكن الرئيس سعد الحريري وضعه المالي صعب. قلت له أنا غير مقتنع، وأنت مسؤول والرئيس سعد الحريري مسؤول وجهة ثالثة مسؤولة أنشأت الخلاف بيننا، وقَطَعَتْ المساعدة، وسترون الآن كيف ستكون معارضة «الديار».
وهكذا بدأت حملتي الصحافية ضد تيار المستقبل، وضد الرئيس سعد الحريري وضد الشهيد اللواء وسام الحسن، لأجعلهم يلتزمون بالاتفاق الذي تم معي. (6)
انتهى كلام شارل أيوب
بلد الخدمات
لا ينبغي أن تستغربوا لهذه الواقعة، لأن لبنان هو في الأساس بلد للخدمات؛ فقد كان الدور الاقتصادي التاريخي له - ولا يزال - هو دور الوسيط الذي يقدم خدمة نقل السلع الاستهلاكية من الغرب إلى الأسواق العربية ويشارك في ازدهار هذه الأسواق. وكان ازدهار لبنان بعد الاستقلال ليس نتيجة لتنمية وطنية حقيقية، بل كان نتيجة لعملية خدمات لجماعات ذات مصالح. ولا يزال ينعكس دور لبنان كوسيط اقتصادي أو سياسي في وسائل الإعلام اللبنانية (وخاصة المطبوعات)، والتي تنفذ حتما أجندات من يمولونها. ويمكن تصنيف الخدمات التي تقدمها الصحف اللبنانية لأسيادها إلى ثلاثة أنواع عامة: (أ) التزام تحريري كامل وأخبار تميل لصالح الممول، سواء بلد أو جماعة ؛ (ب) نشر مقالات أو قصص إخبارية تدعم وتدافع عن الممول أو تهاجم وتشوه سمعة معارضيه، سواء جماعة أو بلد أو سياسة؛(8) و(ج) تعزيز وترويج سياسات، وغالبا من خلال توقيع عقود مع أكثر من راعي لتعزيز أكثر من سياسة.
الإعانات للصحف اللبنانية تأتي في مجموعة متنوعة من الأشكال؛ إحداها أن تقوم الحكومة أو الجماعة الراعية فعليا باستئجار المطبوعة بأكملها مقابل رسم سنوي أو شهري. وبموجب هذا الترتيب، يدفع الراعي جميع تكاليف الإنتاج وكذلك رواتب الموظفين خلال فترة العقد.
شكل آخر من أشكال الدعم يأتي من خلال مدفوعات لترويج وإبراز برامج أو قضايا محددة. حجم هذه المدفوعات يعتمد على الراعي، ولكنها يمكن أن تكون مغرية جدا، كما كُشف ذات مرة عبر خلال مؤتمر صحافي عقده عام 1967 الرئيس السابق لنقابة الصحافة، زهير عسيران. أعلن عسيران استقالته من الرئاسة بسبب خلاف مع أعضاء مجلس إدارة النقابة على مبلغ مليون ليرة لبنانية (200 ألف دولار وقتها) تلقاها من حاكم عربي سابق وادعى عسيران أن المال دفعه له «شخصيا» مقابل الترويج لسمعة ذلك الحاكم في العالم العربي، وأنه لن يتقاسمها مع أعضاء مجلس إدارة النقابة. وكشف عسيران أيضا أنه قد وزع في وقت سابق على ناشرين لبنانيين – وهو زعم قال إنه موثق - مبلغا آخر يقدر بـ 100 ألف دولار من نفس ذلك الحاكم السابق(9). وعلقت على هذه الحادثة في ذلك الوقت، صحيفة «ديلي ستار» البيروتية اليومية الإنكليزية قائلة: «ما كان صادما حول صفقة المليون ليرة هو أنه لا أحد انتقد مبدأ قبول الرشوة؛ ولكن الاحتجاجات تركزت على عدم تقاسم المبلغ بين مختلف ملاك الصحف....» (10).
وحدث اعتراف علني مماثل حول تلقي دعم في عام 1962 عندما ذكر ناشر مجلة أسبوعية رائدة أنه رفض دفعة أولى قدرها 200 ألف دولار من دولة عربية لتأسيس صحيفة يومية بشرط أن ينشر في العدد الأول منها مقابلة حصرية مع رئيس ذلك البلد. فقد كتب الناشر أن الدفعة الأولى تم تسليمها له من خلال سفارة ذلك البلد في بيروت، ولكنه أعادها «لأن الصحافة اليومية لم تكن تخصصه»، وليس لأنه أمر غير أخلاقي، لا بل قال إنه نصح رئيس تلك الدولة أن يعطي المال لناشر لبناني آخر متخصص في الصحافة اليومية. وقيل إنه أخبر ذلك الرئيس «أنا جنديك، ولكنني أُفَّضِلْ الصحافة الأسبوعية»(11)!!
كما يأتي دعم الصحفيين أيضا بشكل غير مباشر من خلال هدايا كالأجهزة أو الورق أو في شكل رواتب، وفي بعض الحالات، يدفع المال للصحافيين مباشرة بدون علم المؤسسة الإعلامية. وهذا يحدث خاصة، عندما يفترض أن تكون المؤسسة الإعلامية محايدة، كما هو الحال بالنسبة لمحطة الإذاعة أو التلفزيون الحكوميتين. وكشف رئيس آخر سابق لنقابة الصحافة عن هذه الأنواع من المدفوعات، وهو الراحل رياض طه في مؤتمر صحافي عقده في عام 1973. قال طه: إن هناك «عقودا وصفقات سرية تربط بعض مذيعي التلفزيون بأطراف غير لبنانية لترويج أخبار بلدان أخرى»، ما يوحي بأن الدولة اللبنانية منحازة في سياساتها العربية والأجنبية(12). وقال طه، إنه قدم الدليل على ذلك للحكومة والتلفزيون ، ولكن لم يصدر أي بيان رسمي ردا على ذلك، ولم يتخذ أي إجراء رسمي بهذا الخصوص منذ ذلك الحين.
كما يجري شكل آخر من أشكال الدعم من خلال توجيه الميزانيات الإعلانية لشركات الأعمال نحو صحف ذات خلفية سياسية، طائفية أو عرقية مفضلة. معظم الصحف اللبنانية لديها نفقات مالية كبيرة لا يمكن تلبيتها إلا من خلال عقود إعلانية كبيرة نسبيا أو من خلال أرقام توزيع عالية. وأشار وزير الإعلام اللبناني أحمد ألبرت منصور في ندوة عامة عام 1990، إلى أن «تركيز» الإعلانات في صحف معينة يبيح لشخص مفرد أو جماعة سياسية أن يطلب دعم في المقابل.(13) العديد من الشركات تعلن بشكل انتقائي على أساس السياسة التحريرية والهوية السياسية لهيئة تحرير الصحيفة.(14) وبالإضافة إلى ذلك، تدفع الفصائل السياسية والطائفية وكذلك مجموعات المصالح للصحف مقابل السكوت عن بعض القضايا أو الأحداث التي تعتبر غير إيجابية لهم.
نقابة الصحافة في لبنان نفسها عززت الطابع التجاري والمسيس لوسائل الإعلام نظرا لتعمق جذور تلك الفكرة في الصحافة كوسيلة لتحقيق سلطة سياسية أو نجاح مالي. وقبل قانون الصحافة لعام 1962، كانت هناك مقولة شائعة عن الصحافة اللبنانية: «لبنان بلد مليء بالصحافيين، ولكن ليس فيه مهنة الصحافة»!! كانت المهنة متشبعة بأناس كانت الصحافة بالنسبة لهم «وسيلة لتحقيق غاية»، وليس مهنة تهدف لخدمة المصلحة المدنية للمجتمع. وقال لي مسؤول في وكالة أسوشيتد برس، إنه بعد وقت قصير من بدء عملياتها في لبنان، زاره ناشر صحيفة معروف في مكتبه، وقال له: «أنا أتابع ما تنشرونه من أخبار وتعجبني. كم تدفعون لصحيفتي لنشر أخباركم؟!!!!» لا يمكن أن نصنف معظم أصحاب التراخيص الحالية للمؤسسات الإعلامية اللبنانية بصورة موضوعية كصحفيين مهنيين.
عندما أعطى قانون الصحافة لعام 1962 ناشري الصحف السلطة لإدارة شؤون نقابة الصحافة أدخلوا قيودا، جعلت الأمر أكثر صعوبة للصحف الجيدة والناجحة أن تتطور، لتصبح صحف وطنية كبيرة وتوسيع دائرة القراء لتعبر الحدود المذهبية، والسياسية ، والسيسيو-اقتصادية. ولحماية الصحف الضعيفة التي لا يمكنها المنافسة في سوق مهنية حرة، قيدت النقابة أيضا حجم الصحيفة والسعر، فضلا عن قدرة هيئة التحرير لنشر ملاحق ليوم الأحد، حيث منعت الصدور لسبعة أيام في الأسبوع(15). وعلى سبيل المثال، لم يسمح للصحف بزيادة الحجم (أي عدد الصفحات) دون زيادة السعر. مثل هذه القيود وتدابير مماثلة أعاقت نمو الصحف المهنية الناجحة وأعطت حماية غير مستحقة للصحف الصغيرة التي تلبي المصالح الطائفية، ما أدى بالتالي لزيادة تشتت وتشظي وارتباك الرأي العام اللبناني.
وسائل الإعلام اللبنانية عموما لا تأخذ في الاعتبار محاسبة الشعب لها عند إنتاج المحتوى الإعلامي. ما ينقصها ليس فقط توصيل موثوق للمعلومات، ولكن أيضا قدرة وسيلة الإعلام على المساهمة «بحياد» في تدفق الأفكار والتحليلات البناءة اجتماعيا وسياسيا. ما نراه في لبنان هو نظام اجتماعي يعطي الفرص والمزايا للناس على أساس ثرواتهم ومنزلتهم ضمن نظام قبلي-طائفي. ومن نافل القول ، إن ملكية وسائل الإعلام في نظام كهذا يحمل في طياته إمكانية إتلاف العملية الديمقراطية . مشكلة خطيرة أخرى، هي تجنب القائمين على وسائل الإعلام نشر المعلومات التي تتناقض مع آرائهم أو آراء الممولين الذين يدعمونهم. ولذلك فلا عجب أن الإعلاميين - من جانبهم - يقضون وقتا أكثر في محاولة «تجنب» المعلومات التي لا تروق لهم ولمموليهم من الوقت الذي يجب أن يخصص لبحث ونشر الحقائق الموضوعية للقضايا التي تهم الجمهور العام. هذه الممارسات تعزز الاستقطاب الطائفي في لبنان ، وتعزز أيضا عقلية «الغيتو» لفصائلها المختلفة.
تخصص وسائل الاعلام اللبنانية القليل من الاهتمام لتطوير حوار حقيقي بين الحكومة والجمهور من جهة، وبين الناس أنفسهم من جهة أخرى. وتهيمن على قطاع الإعلام عقلية السوق التي لا تهتم بالمسؤولية الاجتماعية. ونتيجة لذلك، يحدث خلط بين حرية وسائل الإعلام لترويج الأفكار القبلية-الطائفية أو السعي للربح المادي من جهة مع حرية وسائل الإعلام لكشف الحقائق للشعب من جهة أخرى.
نختتم البحث الأسبوع القادم بحول الله.