في يوم من تلك الأيام الجميلة، عندما كنت في التاسعة من عمري، وحينما كانت الدنيا تزهو بكل ما هو رائع وبهيج، والحياة ما زالت حلماً غامضاً مفرحاً، جاء إلى بيتنا ابن عمي «مراد» الذي يعتبره الآخرون، لا أنا، مجنوناً، وكانت الساعة، حينذاك، الرابعة صباحاً، فأيقظني بطرقه نافذة غرفتي وهو ينادي: آرام.. أرام!، فقفزت من فراشي، ونظرت من النافذة، فلم أصدق ما كنت أراه.. لم يكن الصبح قد شع بعد، ولكن الوقت كان صيفاً، وعلى خيوط النور التي بدأ الفجر ينسجها في الأفق البعيد، أدركت حينئذ إنني لم أكن أحلم، رأيت ابن عمي «مراد» ممتطياً صهوة جواد أبيض جميل، وألصقت رأسي بالنافذة، وفركت عيني، وسمعته يقول: أجل.. أجل أنه جواد.. إنك لست تحلم! أسرع إن كنت تريد أن تركب، ومع ذلك، فإنني لم أستطع تصديق ما كنت أراه.!
لقد كانت ذكرياتي الأولى تدور حول الجياد، وكان كل ما أتناه هو أن أركب جواداً، وهذا هو الجانب السار في الأمر، أما الجانب المحزن، فهو أننا فقراء، وهذا ما جعلني أصدق بصعوبة ما كانت عيني تراه.. نعم كنا فقراء.. ومع ذلك فقد كنا معروفين بالصدق والأمانة! وبالرغم من أنني كنت أرى الجواد بهذه الروعة، وأشم رائحته المحببة إلى نفسي، وأسمع أنفاسه تتردد، فلم أستطع مع ذلك أن أصدق أن لهذا الجواد أية علاقة بابن عمي «مراد» أو بي أنا، أو بأي فرد من أفراد عائلتنا، حياً كان أم ميتاً، ولأنني أعرف أيضاً أن ابن عمي هذا لم يكن في استطاعته أن يشتري الجواد، فإن لم يكن قد اشتراه فلا بد أنه سرقه.. فسألته: مراد.. من أين سرقت هذا الجواد؟!
أجاب: اقفز من النافذة إن كنت تريد أن تركب!
إنها الحقيقة، إذاً، فلقد سرق الجواد! وأنه لا يريد سؤالاً.. لقد جاء ليدعوني للركوب فقط، وليس لي إلا أن أختار بين القبول أو الرفض.. حسناً لقد بدأ لي أن سرقة جواد من أجل ركوبه، ليس كسرقة شيء آخر كالنقود مثلاً، ومع ذلك، فمن المحتمل أنها لم تكن سرقة على الإطلاق، إذ لن تكون كذلك إلا عندما نقدم على بيعه، وهذا ما لن نفعله بالتأكيد! وارتديت ملابسي على عجل، وقفزت من النافذة إلى الأرض، ثم وثبت فوق ظهر الجواد وجلست وراء ابن عمي «مراد»! في تلك السنة، كنا نسكن في أطراف المدينة، وخلف بيتنا كان الريف: حقول العنب، والبساتين، وقنوات الري، والطرق الريفية، وفي أقل من ثلاث دقائق وصل بنا الجواد إلى الطريق الريفي، ثم بدأ يعدو.. كان الهواء منعشاً، وإحساسك وأنت على صهوة جواد كان مدهشاً، وبدأ ابن عمي يُغني.!
إن كان في كل عائلة من عشيرتنا عرقاً من الجنون يكمن في فرد من أفرادها، وابن عمي «مراد» كان يعتبر المنحدر الطبيعي لعرق الجنون في عائلتنا! ومن قبله كان عمنا «خسروف» ذلك الرجل البدين، ذو الجسم الضخم والرأس الكبير ذي الشعر الأسود الكثيف وصاحب أضخم شارب في وادي «سان جكوين».. كان إنساناً جاف الطبع، شرساً، سريع الغضب، نافذ الصبر، حتى أن بإمكانه إيقاف أي شخص عن الكلام عندما يزمجر فيه صائحاً: «لا ضرر من ذلك.. لا تقلق!»، إنه يقذف بهذه الكلمات في وجه أي إنسان مهما كانت أهمية الكلام الذي يتحدث فيه!
حدث مرة أن جاء إليه ابنه «آراك»، وكان والده عند الحلاق يشذب له شاربه، قاطعاً في طريقه ثماني قناطر، وهو يعدو ليخبره أن منزلهم يحترق، فما كان من أبيه «خسروف» إلا أن صاح فيه قائلاً: «وماذا في ذلك.. لا تقلق!»، فقال له الحلاق في دهشة: ولكن الولد يقول: إن بيتك يحترق، فقال: كفى.. قلت: لا ضير في ذلك!
إن ابن عمي «مراد» كان من عرق هذا الرجل، مع أن والده «زوراب» كان شخصاً عملياً.. ذلك ما كان يجري في عشيرتنا.. إن أي رجل يستطيع أن يكون أباً لجسد ولده، ولكن ذلك لا يعني أنه يمكن أن يصير أباً لروحه ونفسه أيضاً.. إن توزيع أنماط روح عشيرتنا المتباينة منذ البداية، متقلب الأطوار، ومتصف بالشرود والزوغان!
وهكذا راح بن عمي «مراد» يغني، ونحن نمتطي معاً صهوة الجواد في الريف الواسع الذي كنا نجول فيه طولاً وعرضاً، والجواد يجري بنا طالما كان يشعر بالرغبة في ذلك.. وأخيراً قال ابن عمي: انزل.. أريد أن أركب وحدي! قلت: وهل سوف تدعني أمتطيه وحدي فيما بعد؟! قال: هذا شأن يعود للجواد.. انزل! قلت: إن الجواد لن يمانع! قال: سوف نرى.. ولكن لا تنس أن لي أسلوبي الخاص مع الجياد! قلت: حسناً.. لك أسلوبك.. ولي أسلوبي كذلك! قال: من أجل سلامتك دعنا نرجو ذلك.. انزل! قلت: حسناً جداً.. ولكن تذكر أنك ستدعني أركب الجواد وحدي!
ونزلت.. وركب ابن عمي الجواد ثم نخزه في بطنه، وهو يصبح به: انطلق! فوقف الجواد على مؤخرتيه، ثم نفخ بمنخريه، وانطلق بأقصى سرعة، فكان ذلك أجمل منظر رأيته.. واتجه ابن عمي «مراد» بالجواد مخترقاً حقل الأعشاب الجافة ومتجهاً نحو قنوات الماء، فوثب الجواد فوقها، وبعد خمس دقائق عاد به والجواد يتصبب عرقاً، وكانت الشمس، آنئذ، تأذن بالشروق! قلت: والآن جاء دوري! ونزل ابن عمي مراد عن ظهر الجواد، وهو يقول: اركب! ووثبت على صهوته.. وتملكني وأنا أمتطيه خوف شديد.. وظل الجواد واقفاً لا يتحرك.. فقال ابن عمي «مراد»: أنخزه في بطنه.. ماذا تنتظر؟! إن علينا أن نعود به قبل أن يعرف بأمره أحد! وأخذت بنصيحته.. فنخزته، ومرة أخرى رأيته يقف على قدميه، وينفخ منخريه، وينطلق وهو يعدو بسرعة البرق، ولم أعرف كيف أتصرف.. وبدلاً من أن يتجه بي عبر الحقل المفتوح باتجاه القناة، كما أريد، وجدته يتجه بأقصى سرعة باتجاه حقل الكروم، حيث أخذ يثب من فوق شجيرات العنب، فوثب فوق سبع منها، قبل أن أقع من على ظهره إلى الأرض، فاستمر يعدو لا يلوي على شيء.. وأقبل ابن عمي مراد يجري، وهو يقول:
- إنني لست خائفاً عليك مثل خوفي على الجواد، وعلينا الآن أن نبحث عنه، وذهب ابن عمي «مراد» عبر الحقل نحو الساقية، واستمر يبحث عنه نصف ساعة حتى وجده، ثم عاد به وهو يقول: اركب! إن العالم كله قد استيقظ الآن!
قلت: ماذا سنفعل؟! قال: إن علينا إما إعادته أو إخفاءه حتى صباح الغد!
ولم يبد عليه أنه قلق.. وعرفته أنه سيخفيه بدلاً من أن يعيده! وسألته: أين ستخفيه؟ قال: أعرف مكاناً.! قلت: منذ متى سرقت هذا الجواد؟! أجاب: ومن قال لك إنني سرقته؟! قلت: على أي حال، منذ متى بدأت تمتطيه؟! قال: منذ هذا الصباح! قلت: هل إنك تقول الحقيقة؟! قال: طبعاً لا.. ولكن إذا انكشف أمرنا فهذا ما عليك قوله.. إنني لا أريد أن نكون كاذبين.. قلت: حسنا!.!
وسار بالجواد في هدوء إلى مخزن في مزرعة مهجورة، وكان في المخزن بعض الشوفان والبرسيم الجاف.. ثم عدنا إلى البيت!
قال ابن عمر «مراد»: إنه ليس من السهل أن تجعل جواداً يتصرف معك بهذا اللطف.. في البداية كان يريد أن يعدو بطريقة وحشية، ولكن كما أخبرتك، إن لي أسلوبي مع الجياد.. إنني أستطيع أن أجعله يفعل أي شيء أريده، أنا، منه، فالجياد تفهمنيّ
قلت: وكيف يتسنى لك هذا؟ قال: إن لي طريقتي التي أتفاهم بها مع الجياد! قلت: نعم.. ولكن أي نوع من التفاهم؟ قال: طريقة بسيطة وصادقة! قلت: حسناً، أتمنى لو جعلتني أعرف كيف السبيل إلى مثل هذا التفاهم مع الجواد! قال: إنك ما تزال ولداً صغيراً.. ولكن عندما تبلغ الثالثة عشرة فستعرف، حينئذ، كيف تتصرف!
وقصدت البيت، وتناولت إفطاراً شهياً!
وبعد ظهر ذلك اليوم، جاءنا عمي «خسروف» وجلس في باحة البيت يرشف القهوة، ويدخن، ثم جاءنا زائر آخر، هو المزارع «جون بيرو» وهو آشوري يجيد اللغة الأرمينية التي تعلمها بسبب وحدته.. فأحضرت والدتي القهوة والتبغ للزائر، فلف لنفسه سيجارة، وأخذ يرشف القهوة ويدخن.. ثم قال وهو يتحسر: إن جوادي الأبيض الذي سرق مني الشهر الماضي ما زال مختفياً.. إنني لا أستطيع أن أفهم ذلك!. فهاج عمي «خسروف» وصاح فيه: لا ضير في ذلك.. وما أهمية جواد إذا فقدته؟! أو لم نفقد نحن وطننا؟!
قال «جون بيرو»: إنه غير مهم بالنسبة لك، لأنك تسكن المدينة، ولكن ما قولك في عربتي؟ وما نفع عربة بدون جواد؟! فزمجر عمي «خسروف» قائلاً: لا تهتم.. لا ضرر من ذلك! قال «جون بيرو»: لقد مشيت عشرة أميال كي أصل إلى هنا!
فصاح فيه عمي «خسروف» لك ساقان! فقال المزارع: إن ساقي اليسرى تؤلمني!
فقال عمي «خسروف»: لا تهتم.. لا ضرر من ذلك! قال المزارع: ذلك الجواد كلفني ستين دولاراً! فصاح عمي «خسروف: إني أبصق على الدراهم! ثم نهض الرجل وانسل من البيت وهو يصفق الباب من خلفه!
قالت أمي للمزارع تواسيه: لا تغضب مما قاله لك.. إن قلبه طيب، ولكنه مشتاق إلى وطنه لا غير.. وابتعد المزارع.. وخرجت أعدو إلى بيت ابن عمي «مراد»، فوجدته جالساً تحت شجرة خوخ، وهو يحاول إصلاح جناح مكسور لعصفور صغير لا يستطيع الطيران، وسمعته يتحدث إلى الطير، وما إن رآني حتى بادرني قائلاً: ما وراءك؟! قلت وأنا مبهور النفس من التعب: إنه المزارع «جون بيرو».. لقد زارنا وهو يريد جواده، لقد أبقيته عندك مدة شهر.. وأريدك أن تعدني بألا تعيده حتى أتعلم الركوب!
قال ابن عمي «مراد»: يلزمك سنة كي تتعلَّم! قلت: نستطيع الاحتفاظ به مدة سنة!
فوثب ابن عمي «مراد» على قدميه وهو يقول: ماذا؟! هل تطلب من أحد أفراد عائلة «كاروغلافيان» أن يسرق؟! يجب أن يعود الجواد إلى صاحبه!
قتل: متى؟! قال: خلال ستة أشهر على الأكثر!
ورمى بالطير إلى الهواء، وحاول الطيران بصعوبة، وكاد يهوي مرتين، ولكنه في النهاية استقام في طيرانه، ثم ابتعد وهو يرتفع في الجو!
وبقينا، أنا وابن عمي «مراد» نأخذ الجواد كل صباح، ولمدة أسبوعين حيث نخرجه من مخزن المزرعة المهجورة ونمتطيه!
وذات صباح، وفيما كنا في طريقنا لإخفاء الجواد في المزرعة المهجورة، إذا بالمزارع «جون بيرو» يلتقينا وجهاً لوجه، وهو في طريقه إلى المدينة ماشياً!
فقال ابن عمي «مراد»: دعني أتولى الحديث معه، فإن لي طريقتي مع المزارعين!
فبادر المزارع بقوله: صباح الخير «جون بيرو»! وعرف المزارع جواده، فبدأ مشوقاً إليه، فقال: صباح الخير يا أبناء أصدقائي.. ما اسم جوادكما هذا؟!
قال ابن عمي «مراد»: ماي هارت! «My Heart»!
قال المزارع: اسم على مسمى.. أستطيع أن أقسم على أنه الجواد الذي سرق مني قبل أسابيع.. هل أستطيع النظر في فمه؟ ونظر المزارع داخل فم الجواد، ثم قال: - سن مقابل سن.. أكاد أقسم بأنه جوادي لو لم أعرف جيداً والديكما..! أن شهرة عائلتكما بالأمانة معروفة لدي.. ومع ذلك فالجواد توأم جوادي.. إن الرجل المرتاب يُصدق عينيه بدلاً من قلبه.. طاب يومكما يا صديقي الصغيرين! ومضى في طريقه!
وفي ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي: أخذنا الجواد إلى مزرعة صاحبه «جون بيرو»، وأدخلناه الحظيرة.. وعندما رأتنا الكلاب صارت تتبعنا دون أن تنبح! فهمست إلى ابن عمي مراد قائلاً: الكلاب! أظن أنها ستلاحقنا بنباحها!
فقال: قد تنبح على شخص آخر.. أما أنا فلي طريقتي مع الكلاب!
وطوق ابن عمي «مراد» عنق الجواد بكلتا يديه، وضغط بأنفه على أنفه.. ومرر يده على ظهره يمسحه برفق وحنان، وبعد ذلك تركناه وعدنا!
وبعد ظهر ذلك اليوم، جاء «جون بيرو» إلى بيتنا، وهو يستقل عربته، ودعا والدتي لترى الجواد الذي كان سرق منه ثم أعيد إليه، وقال:
- إنني لا أدري ماذا أقول.. إن الجواد الآن أقوى جسماً، وأحسن مزاجاً، إنني أشكر الله إذ أعاده إليَّ!
وسمعه عمي «خسروف» وهو جالس في باحة البيت، فصاح فيه:
- على مهلك يا رجل! على مهلك! لقد عاد إليك جوادك.. فلا تقلق!
(تمت)