خاطرة 1
لقد سرني كثيرا حين رأيت الأديب الرائد سعد البواردي يُكرمه الوطن في مناسبة رائعة من أهم المناسبات الثقافية في المملكة، وهي مناسبة مهرجان الجنادرية، ويتسلم وسام التكريم من ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز، وتُنظم ندوة عن سيرته ومسيرته الأدبية والصحفية، وقد رأيت على وجهه علامات الرضا والامتنان، وأحسستُ من بين نبرات صوته ـ وهو يلقي كلمته في حفل التكريم ـ حشرجة البهجة وغصة الفرح.
نال البواردي هذا التكريم لأنه:
كان شاعرا غزير الإنتاج، وكان أديبا يكتبه الأدب، ولا يكتب الأدب ، حتى إذا تكلم أو ردّ على جواب رأيته يتحدث أدباً رائعا ورائقا، وإذا كتب ـ بخطه الجميل ـ لاتملك إلا أن تحتفظ بما كتب لجمال المظهر وجمال المخبر.
كان من رواد التجديد في بناء ومضمون القصيدة في المملكة، ومن رواد شعر التفعيلة.
كان من رواد الصحافة في المملكة حين أصدر بمفرده مجلة الإشعاع عام 1375هـ، في حقبة صحافة الأفراد، على الرغم من صغر سنّه، وضيق ذات اليد، وقلّة الدعم، ومركزية العمل.
له إسهام في الكتابة النقدية الانطباعية منذ أكثر من عشر سنوات في جريدة الجزيرة في صفحة (استراحة داخل صومعة الفكر).
كان من رواد القصة، وفاز بجائزة جريدة البلاد عام 1364هـ، ثم كتب القصة بانتظام وأعطاها في مجلته مساحة متميزة، ثم أقدم في وقت مبكر على إصدار مجموعة قصصية بعنوان (شبح من فلسطين )، وهي خطوة مبكرة وجريئة.
خاطرة 2
البواردي ومجموعة (شبح من فلسطين)
تحدث البواردي عن أول تجربة قصصية له، فقال [في الربع الأخير من عام 1363هـ، وكنت حينها في مسقط رأسي شقراء أتصفح صفحات صحيفة البلاد السعودية استرعى انتباهي إعلان عن مسابقة شبابية على مستوى القصة القصيرة رصد لها ثلاث جوائز: 100 ريال للفائز الأول، و50 ريالا للفائز الثاني، و30 ريالا للفائز الثالث، مبلغ يسيل له لعاب من هو في مثل حالتي، فرصة مواتية لابد من اهتبالها دون انتظار، استعنت بأسلحة مستعارة وظفتها في قصة تحت عنوان (على قارعة الطريق)، تحكي قصة امرأة مشردة يطعم اليأس والبؤس أحشاءها، دون أن يكترث بوجعها أحد، هذا كل مافي الأمر، كدتُ أنسى المسابقة بعد مرور وقت لاأذكره، ولكنه ليس بالقصير، كادت المفاجأة تصعقني تهز أوصالي فزتُ بالجائزة الثالثة بثلاثين ريالا، ياالله ياللفرحة لم أكد أصدق نفسي، تخيلت أننا نحن الثلاثة فقط من تقدّم للمسابقة، مما أتاح لي فرصة الفوز..]. لم يكن الهدف من هذه المجموعة هدفاً جماليا أدبيا، ولم يكن المشروع من ورائها هو مشروعا قصصيا خالصاً، بل كان الهدف ـ مع ماسبق ـ: 1 - هدفا: تبشيريا وتجريبياً 2 - وهدفا اجتماعيا إصلاحياً. فالهدف الأول يعني أنه حاول أن يدخل في تجربة من سلسلة تجارب أدبية وإبداعية متنوعة، فقد كتب الشعر، وكتب المقالة، وكتب الرسالة، وكتب الخاطرة، وكتب النقد، فلا مانع أن يجرب القصة، ويكتبها حتى ولو كان الهدف اجتماعيا، أو إصلاحياً، أو تربوياً ، فهو يؤمن بالتجريب والمغامرة الكتابية، فالتجارب والمحاولات الجديدة في الشعر والنثر هي أساس حركات التجديد وتطور الأدب .
كما كان يريد التبشير بالقصة وشدّ أزرها كجنس أدبي جديد على الساحة الأدبية المحلية، أو على الأقل لم تتحدد ملامحها بشكل واضح بعد تجاوز مرحلة المحاولات والبدايات، وسعى البواردي إلى محاكاة ونقل التجارب العربية الناضجة عبر نصوص قصصية تطبيقية، فالممارسة التطبيقية أجدى نفعاً وأبعد أثراً من التنظير. أما الهدف الثاني فقد وجد في الكتابة النثرية عموماً، والكتابة القصصية تحديدا: وعاء غير محدود من الحركة يطول ويقصر ويرتفع ويهبط دون خشية الخروج على جادة الانضباط الشكلي كما في الشعر (المجلة العربية شوال1402هـ، ص82)، وبما أن المجتمع يمور ويموج بقضايا وعادات اجتماعية عديدة، تحتاج إلى تشريح وتحليل وتفصيل فلا أنسب من القصة والمقالة والخاطرة للقيام بهذه الوظيفة. وقد يقال إنه لم يستمر في الكتابة القصصية، والحقيقة أن لديه ـ كما يذكر ـ من ضمن مؤلفاته المخطوطة قصصا لم تُنشر.
وحسب رؤيتي لشخصيته الأدبية ومزاجه خاصة بعد تقدّم سنّه أنه يميل كتابيا إلى الكتابة المركزة المكثفة، وكثيرا مايكرر: خير الكلام ما قلّ ودلّ، وكما أراه في زاويته حالياً في: (المجلة العربية) بعنوان ( كلمات: ماقلّ ودلّ) ، وفي صفحته النقدية في جريدة الجزيرة ، في حين أن الكتابة القصصية تحتاج مزاجا نفسيا وكتابيا ممتدا زمنيا، ومدّة زمنية أطول، ومعايشة قد تمتد أسابيع للكتابة والصياغة والمراجعة . . وأراه كتابيا يكتب النص أو المقال او الخاطرة للمرة الأول ى ويقذفه إلى عالم القراء دون رغبة في المراجعة المتكررة الطويلة .
وقد كان البواردي يحمل مشروعا وهمّاً تجاه مجتمعه وأفراده في شعره، وقد رأى فيه د-عبدالله الحامد رأس المدرسة الاجتماعية في الشعر السعودي، ويبدو أن نشأته في بدايات حياته بما فيها من حاجة وفقر وعوز عاملٌ للاهتمام الموسّع بقضايا المستضعفين والمعوزين، في ظل دولة كريمة سخية كما كان يردّد. . وستكون القصة والنثر عموما أنسب وسيلة للتعبير، لما فيها من دقة التصوير، والعناية بالتفاصيل، وتحليل ووصف الأشخاص والأماكن، لتصل الصورة بكل دقة إلى القراء بجميع طبقاتهم ومستوياتهم، إن كانوا هم المعنيّين لبث الوعي فيهم، أو لتمتدّ إلى غيرهم ممن يمتلكون الحل. فقصص البواردي اهتمت بهموم: الفقراء والمحتاجين، والمستضعفين وخاصة (المرأة)، التي ربما يرى أنها قطعة مهمّشة ومستضعفة، في مجتمع يغلب عليه أن يسيطر الرجل فيه، ولايفكر إلا في المال والشهوات. ولم ينحصر البواردي في المجتمع المحلي القريب، بل اتسعت الدائرة لتشمل المجتمع العربي بكافة طبقاته الحاضرة والبادية، المتعلمة والأمية، فكانت بعض قصص المجموعة من فلسطين، ومن مصر، ومن لبنان. فلم نجد من بين قصص المجموعة قصصا عاطفية، تخاطب الغرائز أو تهدف للمتعة وحسب، بل كانت تهدف قصص المجموعة إلى أهداف اجتماعية وتربوية، كمقاومة مظاهر استغلال القوي للضعيف، والمشاكل المتعلقة بالزواج والمرأة ، وإفرازات الطفرة المادية. فلذا نجد البواردي في مجموعته قد تبنّى قضية الإنسان في كل مكان، فقد كان من جيل الأدباء الذين تفاعلوا مع حركات التحرر من الاستعمار في العالم كله، لذلك نجده ـ في معظم شعره ونثره ـ لاينغلق على بيئته، بل كانت قضيّته هي قضية الإنسان في أي مكان على وجه الأرض . ..... فيحاول أن ينتقل بهذه الشخصيات إلى الإطار الإنساني، فتأخذ هذه الشخصيات شكل الأنموذج الإنساني العام .
خاطرة 3
بدأت الخيوط الأولى للاهتمام المباشر بأدب البواردي منذ بدأت بإعداد رسالة الدكتوراه، وفي أثناء فترة جمع المادة الأدبية والعلمية للرسالة، كان من بين مصادر الرسالة: (مجلة الإشعاع)، إذ نشر فيها عدد من شعراء منطقة القصيم قصائدهم ، فقمتُ بتصوير كامل أعداد المجلة، وبعد أن فرغتُ إلى المجلة بهرتني المجلة ـ قياسا بعصرها ـ بوفرة موضوعاتها وموادها الأدبية، من شعر ومقالات وقصص، ودراسات، وتراجم، فقررتُ التفرغ مع بعض تلاميذي لدراسة موادها الأدبية والنقدية، وتأمل تجربتها، فوجدتُ أنها أدّت منجزا نقديا متناسبا مع إمكانياته الشخصية، وإمكانيات العصر، كما أنها (احتفلت) و(احتفظت) بمادة شعرية ونثرية لعدد من شعراء وأدباء المملكة، الذين أدرجوها فيما بعد في دواوينهم ومجموعاتهم.
ثم استمرت صلتي بالمنجز الأدبي للبواردي، فقمتُ خلال السنوات القليلة الماضية بالكتابة والإشراف على حزمة من البحوث والدراسات عن الأديب سعد البواردي، أداء لواجب أراه ضروريا تجاه أدبائنا وأعلامنا، منها:
1- مبحث بعنوان: موازنة بين الشاعرين: محمد فهد العيسى وسعد البواردي، ضمن رسالة الدكتوراه عن: حركة الشعر في منطقة القصيم 1425هـ.
2- المشاركة بتقديم بحث في ملتقى نادي الرياض الأدبي عام 1427هـ، عن الجهود المبكرة لمجلة الإشعاع في حركة النقد في المملكة.
3- إنجاز بحث بعنوان: المشروع النقدي للمجلات السعودية، مجلة الإشعاع نموذجاً ، منشور في مجلة: كلية الآداب بجامعة جنوب الوادي بمصر عدد:25 - 2008م .
4- إنجاز بحث بعنوان: مجموعة (شبحٌ من فلسطين) القصصية، دراسة نقدية: منشور في مجلة كلية الآداب، جامعة الزقازيق عدد 64، يناير 2013م.
5- رسالة ماجستير بعنوان: شعر سعد عبد الرحمن البواردي، دراسة فنية ، الباحث - عبد الله علي الفهيدي، إشراف د- إبراهيم المطوع: جامعة القصيم نوقشت في 12-1-1433هـ .
6- رسالة ماجستير بعنوان: سعد البواردي ناقداّ، الباحث - غانم سليمان الغانم، إشراف د - إبراهيم المطوع: جامعة القصيم، نوقشت في 6-7-1433هـ.
7- المادة الأدبية والنقدية في مجلة الإشعاع: جمع ودراسة، بحث التخرج لطلاب قسم اللغة العربية بجامعة القصيم عام 1427هـ، إشراف د-إبراهيم المطوع.
8- كتابة مقال بعنوان: مجلة الإشعاع مغامرة الشاب العشريني، في مجلة المسبار 1435هـ.
ولازالت هناك جوانب من المنجز الأدبي للأديب البواردي تنتظر عناية الدارسين والباحثين، من مثل: البواردي بين الشعر الفصيح و الشعر العامي، فن الرسالة عند البواردي، الومضات الأدبية عند البواردي، فن القصة عند البواردي.
خاطرة أخيرة
لازال الأستاذ الرائد سعد البواردي يتمتع بتوهج وطاقة متقدة نحو الكتابة الأدبية ـ وهو يسير الآن في العقد الثامن من عمره ـ وأرى أن من أهم عوامل هذا التوهج: أنه لايزال يرى نفسه (تلميذا) (متعلما) (متلقيا)، لم يصل حتى الآن إلى السقف، وأظنه لن يصل إليه، وكل واحد من الناس يختار الارتفاع المناسب لسقفه الأدبي والمعرفي، ومنهم من يترك بناءه المعرفي والأدبي مكشوفاً دون سقف ، وأكاد أجزم أن البواردي من هؤلاء. يكرر في أكثر من مناسبة بأنه ليس لديه من الشهادات إلا:شهادة ميلاده، وشهادة أن لاإله إلا الله، وشهادة الابتدائية ، ولأنه صادق مع نفسه ومع قرائه، فهو ـ كما يقول عن نفسه دائما ـ إنه تسلّل إلى عالم الأدب والنقد والصحافة من الشباك، وليتنا ـ شبابا وكبارا ـ تعلمنا من سيرته وعصاميته وكفاحه، فسيرته الأدبية والشخصية حافلة، وتستحق الدراسة والتأمل، أتمنى أن يكتبها وينشرها ويقدّمها للشباب وللكبار، فسيرته قدوة ونموذج للكفاح والعصامية .
بقي الدور المنتظر من الأندية الأدبية والمؤسسات الثقافية الحكومية والخاصة ومن أبرزها اثنينة الأستاذ عبدالمقصود خوجة، في إعادة طباعة دواوينه الشعرية الأولى، وآثاره النثرية، وقصصه، ومقالاته، وهي الرائدة في جمع آثار الرواد والأعلام من جميع أنحاء المملكة.