لاحظت ولعل غيري كذلك قد لاحظ مما يطرح في الصحف وبعض المجلات المحكمة، لاحظت أن هناك نوع عشوائية فيما يكتبه كثيرون ممن يكتب الطرح المقالي، وكذا ما يفعله كثيرون ممن يكتبون الزوايا، وهذا الأمر الملاحظ سبب خمسة أشياء لعلها ما كانت لتكون لولا هذا، وأجزم أن حسن النية يبدو جلياً عند كثيرين منهم لكن حسن النية هذه لا ضير أنها غير كافية إذ إن التثبت والتروي والطرح الهادئ الرزين وجمع كافة المعلومات عن الموضوع المراد تناوله بكل شفافية وعدل وتجرد وأمانة يعطي صورة جيدة عن الكاتب كما يعطي صورة واثقة عنه هو لنفسه بنفسه أنه من عيار مستقيم عادل نزيه جد نزيه، وهذه الأمور أو الأشياء الخمسة هي كما يلي:
الأولى: عجلة الطرح المغلف بالسخرية.. (وهذا أمر قبيح).
الثانية: الجرأة والتخطئة دون تعقيد وتأصيل وتناول حكيم مجرد محمود. (وهذا أمر يدعو لعدم الرد).
الثالثة: كثرة الاعتماد على الإنترنت والأخذ أحياناً من التغريدات لنقاش ما أو نقد ما، (وهذا الأمر يدعو إلى البتر ونبذ الكاتب).
الرابعة: هناك نقطة حساسة عند كتاب الزوايا بدرجة كبيرة وكتاب المقالات ظهرت أخيراً فيمن يكتب في: اللغة أو النحو وتلك هي: التعالم ومحاولة، حك الصخر بالأظافر وشدة الحضور في الكتابة مع ملاحظة التكرار في الطرح دون تنبه لهذا، (وهذا أمر يدعو للملل ومجانبة التجديد).
الخامسة: فقدان المشروع الحي الجيد فيما يطرح اليوم فليس فيما عرض عليّ أو قرأته أي إشارة لمشروع علمي أو لغوي أو نقدي أو فقهي. فكل ما هناك كتابة وكتابة وكتابة فقط، وكما يقال في العامية (مهاوشة).. (وهذا أمر يدعو لمراوحة المكان..مكانك قف).
وأنت حينما تعيدها جذعة فتقرأ (قارئي العزيز) للجاحظ (البيان والتبيين). أو تقرأ لابن قتيبة الإمام المعروف (أدب الكاتب) أو تقرأ لابن تيمية (سياسة الإدارة) في فتاواه، أو تقرأ للآمدي كتابه: (الأحكام.. اي الموافقات).. أو تقرأ لابن منظور (لسان العرب) أو للجوهري (الصحاح) أو تقرأ فهرس كتاب (فتح الباري) لابن حجر حينما تقرأ الفهرس فقط لتقف على ما تناوله في حقيقة: العلم.. الرسائل.. النقد.. الطب.. سياسة الإدارة العليا.. العلاقات.. المواثيق.. التوجيه.. الأمانة..
وحينما تقرأ لابن العربي (سورة يوسف) عليه السلام حينما شرحها طرا وكذا: (براءة) و(والأنفال) و(الأنعام).
حينما تقرأ هذا عند هؤلاء من كبار العلماء تجد ما في ذلك شك بعد قراءة وقراءة أن القوم لكل منهم مشروعه الجليل لكنها تلتقي في الأخير في مشروع واحد هو: الإضافات برصانة وجد وعمق وسبق لم يكن من قبل مثلها على تعاقب القرون الطوال، هذا كله دون ريب ممكن حصوله ولاسيما إذا عرف الكاتب قدر نفسه وموهبته وأنه يقرأ له الناس لكي يأخذوا اجتهاداً جديداً ورأياً جديداً وتأصيلاً جديداً ومشروعاً حياً مسدداً يلقح العقول ويكسب المواهب وينمي القدرات.
لا جرم هذا هو المراد الذي بإذن الله تعالى يغني عن كل مراد.
فالعالم .. والكاتب .. والمحقق والباحث حينما تسمو عقولهم صعداً (الحق يقال) يكون ثمة مشروعات حية عادلة نزيهة تجر إليها مشروع واحد فقط هو التجديد الذي ينشده نفسه العالم ونفسه الكاتب ونفسه الباحث ونفسه المحقق في الآثار في مسائل من سلف وطرح من خلف.