حكى لي صديق عن كيفية تغير الناس، وتبدل مواقفهم مع تحول مواقعهم. تذكرنا بعض الحالات التي تضحك من شدة التباين في المبادئ المتبعة فيها، وتبكي من هول الصدمة في واقع تنصل الناس من مبادئهم بتلك السهولة، وتقمص مبادئ أخرى مناقضة لها تماماً. بدأنا بأحد الزملاء، الذي ما فتئ يردد بمناسبة ودون مناسبة أنه ضد التركيز على الشكليات، وترك الجوهر الذي يقوم عليه أساس العمل. وعندما واجهه أحدهم بما كان من ادعاءاته سابقاً، وما أصبح عليه حاله بعد ذلك، تنحنح، وبدأ في عبارات التمريض، التي لا تقود إلى شيء، ولا تفصح إلا عن الشعور بحرج شديد.
ومن أمثلة الادعاءات الكاذبة للنزاهة والالتزام بالمبادئ النظرية، التي يدرسها التلاميذ في المدارس بوصفها مانفيست الأخلاق الحميدة الراسخة في المجتمع والأفراد الكرام، ما يدعيه بعضهم عن عدم الاختلاس، أو الاستيلاء على أي من الأموال العامة. ومن الواضح أنه يفهم هذه الفكرة حرفياً؛ بمعنى أن هذه العمليات المذمومة مقتصرة على من يمد يده إلى المال العام، فيسرق من صندوق، أو مورد مالي معدّ لغرض معين دون علم أحد. أما ما يمارسه هؤلاء من عمليات مقننة تتمثل في أوراق رسمية يصبح فيها أحدهم مخولاً لاكتساب شيء من المال العام بتزكية من صاحبه الآخر في إضبارات شكلية، لا وظيفة لها إلا تمرير تلك المعاملات بوصفها نظامية وخالصة من أي شائبة.
ثم في موقع آخر يقوم ذلك المستفيد من الموقع السابق بتحضير وليمة فذلكة من الصنف الفاخر للشخص الذي كان مفيداً في ذلك الموقع، ليتبادلا الأدوار في نظافة يد وعقل ولسان لا مثيل لها. ما يستغربه المراقب لحال هؤلاء هو ترديدهم المستمر لهذه المقولات، وكأنهم يفترضون في سامعيهم البلاهة، أو يعتقدون بإمكان أن يصدق الناس ما يقولونه من كثرة تكراره وتأكيده على ألسنتهم وبطرق متعددة. بل إن الأسوأ، إن كانوا في قرارة أنفسهم يظنون صحة ما يقولون، ولو بنسب متدنية؛ لأن هذا يعني أنهم غارقون في الوهم، وليست لهم صلة مباشرة بالواقع، ولا بالمنطق الذي يحكم الأمور، وينطلق منه أغلب الناس المتزنة في أحكامهم وآرائهم في الأشياء. ومن فرط غرابة هذه الحالات، وكثرة تكرارها في مواقع متعددة من المؤسسات العامة إلى الجهات شبه الرسمية، التي تكون فيها مغانم؛ أن الناس الذين لا صلة لهم بمصادر تكوين تلك الشبكات، يستغربون كثيراً، ويتساءلون: لماذا يكون الممثلون لكثير من الجهات الرسمية، هم أنفسهم، مهما تعددت تلك الجهات، واختلفت نشاطاتها؟ هل هم أناس ذوو قدرات خارقة، ويستطيعون إنجاز كل شيء وبأوقات متقاربة، أو حتى متقاطعة؟ بل الأدهى من هذا، هل تخلو البلد من غيرهم، ولم يوجد من يستطيع أن يخفف عنهم من أعبائهم، إن أحسنا النية، وصدقنا من يرشحونهم؟
أما المثال الثالث والمختلف لأركان هذه الظاهرة، فهو نموذج الأشخاص الذين كان يحس أصحابهم أنهم لن يفارقوهم أبداً، وأن صداقتهم من النوع المميز القوي المتين. وتسير الأيام، فإذا أولئك الأشخاص يقل حضورهم الاجتماعي، ورغبتهم في التواصل الفاعل والمشاركة الإيجابية فيما يمتع الأصحاب، ويشعرهم بالحميمية والاشتراك في تاريخ حافل بالمرح والذكريات الجميلة. وعندما تحين ساعات الصدق، فإذا أولئك الناس من ذوي المصالح، يبدون بعيدين وغير مهتمين، ويظهرون وقد جذبتهم الدنيا إلى بريقها الأخاذ، وتنامت لديهم مشاعر التراخي في العلاقات الإنسانية، والتشبث بأواصر البنى الاجتماعية والاقتصادية المنتجة قوة وبريقاً، وألقاً يؤدي بهم إلى كسب بعض النقاط في التنافس الشكلي بين أركان البيئة من جهة والمصالح الشخصية من جهة أخرى.