قيمة الأشياء لا تتغير بالتشارك، فالمشاركة ليست إلغاء لأوليّة ممثِل القيمة إنما إضافة بالتعدد للقيمة الأولية، فالقيمة تتسع بالتشارك لا تنقص بالتعدد أو تُستقطب بالأحادية.
وكلما مال رشدنا إلى القطبية من خلال الاقتصاص انحشرنا في عنق الزجاجة وفقدنا أصل القيمة بإضافتها.
وهذه إشكالية ليست اجتماعية فقط إنما وثقافية أيضا؛ أي تطرفنا القطبي نحو الإلغاء أو الإضافة.
ولعلي أزعم أن مجتمعنا بل والمجتمعات العربية كلنا نميل إلى ثقافة الإلغاء والقطبية أكثر من ميلنا نحو ثقافة الإضافة والتشارك في حالة امتداد القيمة؛ لأن الإزاحة غالبا أيسر من المزج المعتمد على توازن الثنائيات.
والقطبية أسهل في التطبيق من ديمقراطية التداول والتشارك.
وأكثر ما تظهر هذه الإشكالية بالثقافة المكتسبة والثقافة الغائبة في القضايا المتعلقة بالقراءة والكتاب.
لقد تجاوزنا أو يجب أن يكون الأمر كذلك فيما يتعلق بعلاقتنا مع الكتاب أرشيف الوصايا والإرشادات بمعلقاتها الشاعرية؛ بأن خير جليس الكتاب والقراءة مفتاح العقول والقراءة غذاء الفكر وصانعة المعرفة والحضارة ولا نهضة بلا كتاب.
معلقات دفعنا ودُفِعنا إلى حفظها واستظهارها دون إيمان بها.
وهذه رأس المشكلة غياب الإيمان بأصل القيمة المؤسِسة على الاعتبار لتأثير التفعيل والإنجاز.
وأنا هنا لا أعترض على شاعرية تلك المعلقات الرطبة التي تُشجع الخيال على الاقتراب من قلب القراءة؛ إنما الاعتراض على غياب الإجرائية الدالة على القيمة؛ فالكلمات لا تصنع إجرائية فاعلة وإن كانت «كلمات ليست كالكلمات»
إن القيمة الخالية من إجراء هي «قيمة خرساء»؛ لأنها لا تمثل فعلا ولا تدعم سلوكا.
وهذا حالنا مع إشكالية ثنائية «الكتاب والقراءة» وهي إشكالية لأننا نروّج «لقيمة خرساء» عجزنا عن تمثيلها دورا وتأثيرا في صناعة ثقافة الفرد والمجتمع.
كما فشلنا أن نجعل تلك «القيمة» إيمانا للجمعي يتجاوز «فرض الكفاية».
فلا إيمان في ظل الوصاية.
إن الحب هو دليل الإيمان وليس دائما الانجذاب معادلا للحب ومُنتجا للإيمان؛ لأنه يعتمد في ظهوره على الانبهار والرغبة والتملك وكسر حاجز المنع مما يعني أن تأثير القيمة مرتبط بعوامل الانجذاب ومتى ما اختفت تلك العوامل أو لم يتوافر المصدر الدافع لها فقدت القيمة تأثيرها وذلكم يضر بأصل القيمة ومهدِد له؛ لأن ارتباط أصل القيمة بتأثير مسوّغ أو مرهون بإحداثيات وجدانية يضر بها كمؤسِس رئيس في صناعة المنظومة الثقافية للفرد.
إن عجزنا في تأصيل شعبية للقراءة يعود إلى ترويج «القيمة المشروطة» بربط القراءة بالكتاب هذه الثنائية التاريخية التي شرّعت في الذاكرة الجمعية لمفهوم الثقافية وتفعيلها أصبحت مأزقا لأن الاعتقاد برفع الوسيلة يفقد أصل القيمة تأثيره، وبالتالي فالقيمة المشروطة مثل القيمة المرهونة بالانجذاب لا يُمكن أن تتبنى فعلا أو تدعم سلوكا.
كما أن هذا الخطأ الشائع لثنائية القراءة والكتاب في العقل الجمعي حجّم أثر القراءة بل وأثّر أيضا على إستراتيجية المعرفة.
تربى الوعي الثقافي والتربوي للمجتمع أن الكتاب أصل الثقافة؛ في حين أن القراءة هي أصل الثقافة، وهناك فرق بين الأمرين؛ فربط الثقافة بالكتاب هو تأطير للمكتسب المعرفي للفرد بحيث يصبح كل ما هو خارج الكتاب غير ثقافي في ضوء قاعدة التأطير تلك، وأن كل ما هو داخل الكتاب ثقافي وهذه المتلازمة نفرّ الجيل الجديد من سمعة الثقافة.
وبالتالي فالقيمة هنا موجهة إلى «الكتاب» وكأنه جواد المعركة لا إلى القراءة، وشيوع هذه الفكرة هي التي تبرر لنا «هوس الاقتناء» عند البعض مما حوّل الكتاب عند الكثيرين إلى مجرد «ديكور ثقافي» واستغلاله لكسب صفة ثقافية.
وذلكم خطأ لا يتحمله الفرد إنما الأسلوب الثقافي الذي نشأ من خلاله.
أضف إلى هذا الأمر؛ أي ربط القراءة بالكتاب رفع دلالة الحرية عن «قيمة القراءة» فمتى ما ارتبطت الحرية بأحادية المصدر والوسيلة أصبحت استعمارا. فالقراءة هي رمز الحرية المتجدد؛ حرية اعتقاد حرية اختيار، وتلك الحرية هي التي تحقق الغاية من القراءة «الإضافة»؛ ولذلك يجب أن تتجاوز أحادية المصدر والوسيلة.
والكتاب هو سجّان لتلك الحرية؛ لأنه فارض لمعايير الاعتقاد والاختيار، والكتاب سجّان لأنه داعم لسلطة الرقابة ووصاية الرقيب؛ فنحن نقرأ لنعيش لا نعيش لنقرأ، القراءة حياة جديدة دوما؛ ولا يملك أي كتاب حق حصريتها أو الادعاء بأبويته لها.
هذه هي رؤية الأجيال الجديدة للكتاب وسيط مغلق في فضاء افتراضي حّر ومفتوح، ولذلك فالقراءة المرتبطة بالكتاب هي صفة لفارض الاختيار ومؤطِر الحرية.
كما أن ارتباط القراءة بالكتاب أضر به في زمن تعدد الوسائط المعرفية، ولذلك لا تفتأ الطبقة النخبوية أن تُعلن من فترة لأخرى سراديق العزاء على روح الكتاب في ذمة التاريخ وأن الأجيال القادمة مهددة «بالجفاف القرائي» لأنها تعزف عن الكتاب، مما كون شعور بتقليدية ورجعية القراءة وهو ما وسع الفجوة بين الأجيال الجديدة والقراءة باعتبارها معادلا لسلطة الرقيب ومؤشرا لتزّمت الأوصياء ومروّجة للفكر المحافظ.
وهي أيضا -عزائية الطبقة النخبوية- ترسخ لتلك الثنائية التاريخية التي ربطت مفهوم الثقافة بالكتاب والقراءة كما أنها تلغي قيمة القراءة في ضوء تعدد وسائط المعلومات وفق الاعتقاد الذي ذكرته سابقا؛ بأن المشاركة هي إلغاء لأولية ممثل القيمة، وأن الكتاب هو جواد المعركة الرابح.
في حين أن القيمة تتسع بالتعدد لا تنقص أو تستقطب، وبذلك فإن الشائع أن «الأجيال الجديدة» لا تقرأ هو افتراء نخبوي مازال يعيش في ثنائية الكتاب والقراءة وقدسية الوسيط.
في حين أن الجيل الجديد له إستراتيجيته الخاصة بالقراءة والاستفادة المعلوماتية من محتوى الوسائط التي يستقي من خلالها المعرفة.
وأن علاقته المتأزمة مع الكتاب كممثل لذاكرة تاريخية وصورة لتخليد التقليدية المحافظة ليست مشكلة معيقة للقراءة؛ لأن القراءة ممكن افتراضي لا يؤطر بأحادية وسيط أو معيار اختيار.
كما أن التقاطع الآخر بين الطبقة النخبوية والجيل الجديد هو مصدر الثقافة، في حين ترى الطبقة النخبوية الكتاب من خلال تمثيله لشرعية القراءة هو مصدر الثقافة.
يرى الجيل الجديد أن الثقافة يُمكن أن تتشكل من خلال الكثير من الوسائط المتحركة التي لا تخلو من فاعل قرائي يحقق «قيمة الإضافة» مثل الصورة والأغنية والوثائقية والفنون وقنوات التواصل الاجتماعي التي تُشجع على تنمية الحوار الجمعي أو «الظهير المساند» للقراءة التشاركية.
وهذا الإدراك قد يجعلنا نعيد إعادة تشكيل الأهمية بحيث تتصدر القراءة الرهان لا الكتاب وبذلك تُصبح القراءة هي الجواد الرابح في المعركة لا الكتاب.
وكل المواسم خضراء بالقراءة وكل معرض كتاب والثقافة السعودية بخير.