Saturday 01/03/2014 Issue 430 السبت 29 ,ربيع الثاني 1435 العدد

اعترافات متأخّرة

اعتراف (1)

رجل وامرأة يقفان في حديقة. الوقت بعد غروب الشمس بقليل. المرأة تبدو مرحة. الرجل يبدو مُربَكاً بعض الشّيء، ويضع يده على صدره كأنّه يُخبّئ شيئاً ما. المرأة تقترب من الرجل، وتغمض عينيها نصف إغماضة، وتقول: «أمس حلمتُ بالحُبّ، يا له من حلم جميل! أتعْرِفْ؟ يا إلهي لقد كان يشبهك! كنت أقف عند النافذة، وأتأمّل تلك السماء الجديدة التي أصبحتْ برتقاليةً. فجأةً تقدّم منّي الحُبّ، قبّل يدي، وأهداني وردته الحمراء الدّامية «. المرأة تسترسل: «يا إلهي كم كان يشبهك! شعره المحنّى بالفضة، وجهه الطويل الذي يشبه ورقة هندباء كبيرة، عيناه الصّغيرتان الطّائشتان مثل فراشتين مذعورتين، فمه الجسور المكتنز بالحرائق، صدره العريض الذي يشبه صدرك «. الرجل يفتح ذراعيه ليطوّق جسد المرأة. المرأة تتراجع خطوةً إلى الخلف وتهتزّ كأنّها اكتشفت شيئاً ما في صدر الرجل. المرأة تقول بصوت مذعور: «أرجوك قل لي بحقّ السماء، ما هذه الفجوة المرعبة في صدرك»؟

«في الواقع» الرجل يقول متلعثماً، ثمّ يصمت. «أرجوك أكمل «تقول المرأة. الرجل يتابع: «في الواقع لقد كنت أنا من مرّ عليكِ أيّتها المرأة ليلة البارحة، وأهداك تلك الوردة الحمراء الدامية، الوردة التي لم تكن سوى قلبي».

اعتراف (2)

الشاعر (ياء) يجلس وراء مكتبه. الوقت يشير إلى الرابعة ليلاً. بين يديه ورقة بيضاء. والشاعر جلس لا ليكتب، إنّما ليتأمّل. ربّما أراد أن يبوح لنفسه في لحظة صفاء داخليّ بما كان يؤرّقه منذ فترة طويلة. ولهذا فقد أمسك برأسه وحدّق في الورقة البيضاء كأنّها مرآة، وقال يخاطب نفسه: «المرأة أخيراً، أين هي المرأة»؟؟ هو لا يعرف كيف خطر على باله ذلك السؤال الذي لو سمعه أحدهم لقهقه من شدّة السخرية.. ولكنّ الشاعر (ياء) لم يكن لينتظر إجابة من أحد، ولهذا فقد استرسل في الكلام: «أين هنّ ربّات البهجة! أولئك اللواتي يُرعِشن الصخور ويمسحن الفواجع بالأصابع؟ الجسورات اللواتي تتصبّب أكمامهنّ بالحرائق، ويسفحن دم الوعول؟ العابثات اللواتي يفتتحن الصباح بالضحك ويقدن الحكمة برسن النعاس إلى المذود»؟؟

«في غمرة الانشغال بالفراغ: العمل المُمِلّ مثلاً، متابعة شؤون المنزل، قراءة الكتب... إلخ تغيب المرأة عن الشخص «، يقول الشاعر (ياء): «ولربّما يلجأ إلى تجريدها لتصبح مجرّد صورة في الألبوم، أو عبارةً في نصّ».

أمسك الشاعر (ياء) بالقلم كأنّه اهتدى إلى ضالّته، وكتب عبارةً وحيدة على الورقة: «امرأة القصيدة هي غير امرأة الحياة «.

اعتراف (3)

بعد تسعٍ وعشرين سنة هي عمر الحُبّ الذي بيننا، أكتشف ويا للفاجعة أنّنا كنّا أنا وأنتِ محض غريبين عن بعضنا البعض، وأنّ الذي كان يربطنا ما هو إلاّ خيط دخان. ثمّة مسافة شاسعة بيننا، واختلافات عميقة في الصفات والنوايا: أنتِ مشرقة وشفّافة وأنا معتم ومُعكّر مثل نهر خوّض في مياهه مائة حصان. رياحك هائجة وتتنقّلين من جهة إلى أخرى كما لو كنت تتجوّلين في حجرات بيت وأنا أمشي بطيئاً مثل سلحفاة ولا أحِبّ الوصول. أنتِ مستقبلية وأنا ماضوي. أنتِ تحبين الأسوَد كلون سيّد وأنا أحبّ الأزرق. في واقع الأمر هناك عائلة كاملة من الألوان التي أحبها باستثناء الأسوَد. أنتِ لكِ أهداف واضحة ومحدّدة في الحياة وتعرفين قيمة الزّمن وأنا لديّ أهداف ولكنها غير محددة ولا واضحة، لأنّها تخصّ البشرية والصخور والأعشاب والدّيدان، وتحتاج إلى مئات السنين كي تتحقّق أو لا تتحقّق. أنتِ تتقنين الرّقص وتحلجين الهواء بألف جناح وأنا ثقيل مثل صخرة في الوعر وفوق ذلك أنا أخجل من جسدي. أرأيتِ إلى كل هذه الاختلافات! ألا تستحقّ منّا النّظر؟

مع ذلك يعجبني مثل هذا التنافر الحادّ بيننا، وهذه الشتائم الحارة التي نتراشقها بين الحين والآخر كأنّها بهار الحبّ، كأنّ الحياة مريضة بهذا الانسجام في شؤونها، وتحتاج باستمرار إلى من يخضّها ويقلبها رأساً على عقب.

أفكّر كثيراً بي وبكِ، وأعرف أنّ الذي يدمّر الحب هو شيء آخر مختلف لا يتعلّق بنا. إنهم هؤلاء الذين يحركون هذه الدينصورات الهائلة من الحديد التي تملأ البرّ والبحر وتجعل الأرض غير صالحة للإقامة. ماذا يفعل الحب أمام السادة القذرين صنّاع الحروب الذين يعيثون فساداً في الكوكب، ويسمّمون الهواء والأزهار؟ لقد صنعوا من الأرض حاوية كبيرة لقاذوراتهم من مخلّفات القنابل والصواريخ. لقد ضيّقوا علينا الفضاء فلم نعد نرى سوى وجوههم الكالحة. إنهم يفاجئوننا في كل وقت بأوامرهم العجيبة، وبتهديداتهم الخرقاء. هل يظنّون أنّنا سنستسلم لهم؟

ليكن أن نختلف في كلّ شيء إذن، وأن نتفق على شيء واحد هو حب هذه الأرض اللذيذة وأن نشدّ عليها بأسناننا حتى الرمق الأخير.

اعتراف 4

هو: قلبكِ آه قلبكِ، الذي يهبط من تحليقه في المساء، ويحطّ على غصن شجرة ليهدل بالأغاني الحزينة، من يتوقّف لينصِت له، ويتقدّم ليشكّ وردةً في جديلته؟

هي: ..........

هو: قلبكِ آه قلبكِ، حين يقفز من صدرك في المساءات الوحيدة مثل طير مذعور، ويُيَمّم شطر غابةٍ، من يتبع ضلاله؟ من يبتهل ويتضرّع ليعود سالماً إلى البيت؟

هي: ..........

هو: قلبُكِ آه قلبُكِ حين تغادرين بكامل النّزق، وتنسينه على مخدّة أو كتاب، تُرى من يمسكه بأصابع مرتعشة، من يهدهده ويضمّه بحنان إلى صدره؟ من يأخذه في نزهة المساء، ليتأمّل الجمال المعرِّش؟

هي: ضعه في حقيبتكَ الصّغيرة أيها الشاعر، إلى جانب تلك القلوب المطعونة التي كنتَ التقطتَها، والتي هي لنساء شقيقات لي في المرارة واليأس.

يوسف عبد العزيز - فلسطين Yousef_7aifa@yahoo.com