Saturday 01/03/2014 Issue 430 السبت 29 ,ربيع الثاني 1435 العدد

الماركات البشرية! (1-2)

نرى في الأسواق التجارية دائما انتصار منتجات الشركات الشهيرة والماركات العريقة التي حُفرت أسماؤها في أذهان الناس.. نرى انتصارها وتفوقها على غيرها من المنتجات الأخرى.. يقبل الناس على المنتج الذي يحمل «ماركة» قويّة معروفة، حتى لو كان ذلك المنتج ضعيفاً أو سيئاً أو أقلّ جودة ومميزات من منتج آخر أنتجته جهة مغمورة أو جديدة أو ضعيفة الشهرة.

وكذلك الحال في منتجات الأفراد الثقافية وإبداعاتهم المختلفة..

افترضوا أن لاعبًا أو محللاً رياضيًا شهيراً جدًا يملك موهبة متواضعة جدًا في الفنِّ التشكيليّ، قام برسم لوحة فنية متوسطة المستوى، ونشرها عبر موقعه أو مدونته أو صحيفته أو صفحته في أحد مواقع التواصل، أو بأية وسيلة نشر.. أو افترضوا أن شاعرًا عظيمًا معروفًا لا يشق له غبار، يملك موهبة صغيرة في الموسيقى، عزفَ مقطوعة موسيقية مقبولة المستوى وسجّل عزفه ونشره.. أو افترضوا أن واعظاً ذائع الصيت ذا جماهيرية كبيرة لديه موهبة في الكتابة، أصدر كتابًا سيئ المستوى أو نشر مقالة ضعيفة في صحيفة ما.. أو افترضوا أن تاجرًا بلغت سمعته الآفاق يملك نصف موهبة سينمائية، أنتج فيلمًا قصيرًا، أو ظهر لدقائق معدودة مع الممثلين في فيلم.

ثم افترضوا في المقابل أن رسامًا أو عازفًا أو كاتبًا أو سينمائيا أو شاعرًا حقيقيًا محترفًا متمكنًا جدًا من أدواته، ويملك موهبة عظيمة نادرة مميزة مبهرة مكتملة الأركان، أنتج لوحة أو معزوفة أو كتابًا أو فيلمًا أو قصيدة أو أي إنتاج بشري عظيم يفوق الوصف في جماله وروعته؛ ولكنه مغمور لا يعرفه أحد، أو يعرفه قلّة من الناس فقط!

النتيجة غالبًا هي أن عمل المشهور المعروف سيحقق نجاحًا ضخمًا أو خارقًا مهما كان متواضعا، ومهما ابتعد عن مجاله أو مجالاته التي عرفه الناس بها واشتهر من خلالها؛ لأن الناس سيتناقلون العمل ويصفقون له باعتباره عمل فلان المعروف أو المحبوب أو صاحب الشعبية الجارفة. والعكس صحيح غالبًا، خاصة في هذا العصر وعند شعوب (العالم الثالث) تحديدًا، لأسباب يطول شرحها. فالعمل مهما بلغ من الروعة والإتقان والإبداع لن يحقق النجاح والانتشار المستحقين، إذا كان صاحبه من المغمورين الذين لا يملكون النوافذ المطلة على ساحات المتلقين والشرائح المستهدفة داخل مجتمعه أو خارجه. أو بعبارة أخرى: لا يملكون النفوذ القادر على اختراق كواليس الاحتجاب وهتك وتمزيق أستار المغمورية.

اطلعتُ في مراحل حياتي المختلفة على عدد من التجارب الفاشلة التي خاضها كثير من الناس -وأنا منهم- في عدّة مجالات، فوجدتُ في نسبة لا يستهان بها من تلك التجارب عناصرَ تفوق ونجاح، وموجبات تميز وفلاح، تفوق -وبمراحل أحيانًا- ما في غيرها من أعمال مماثلة خلّدها التاريخ ونعتها البشر بأقوى نعوت الإجلال والفخامة والتميّز، وأصبحت حديث السابقين والمعاصرين، وسيبقى اللاحقون إلى الأبد يشيرون إليها بالبنان.

لا شك أن كثيرًا من الإنجازات الفرديّة الكبيرة الرائجة المحتفى بها تستحق ما بلغته من المكانة والحظوة والتقدير والمنزلة الرفيعة بين الناس.. ولا ريب أن كثيرًا منها فرائد جبّارة تحمل بصمات رائعة خاصة، وتستحق الخلود حقًا، لجودتها وإبداع أصحابها في إتقانها؛ بدليل أن نسبة كبيرة منها ظهرتْ من أشخاص لا يعرفهم أحدٌ قبلها، مع ضرورة الانتباه هنا إلى وجود عوامل مختلفة خفيّة أو ظاهرة، ساهمتْ في بروز بعض تلك الإنجازات وطفوها على السطح، وجعلها محط أنظار الناس وفي متناول أيديهم بكل يسر وسهولة.

ولكن حديثي اليوم منصبٌّ -كما يظهر من بداية كلامي- على نجاح ما لا يستحق من الأعمال والمنتجات الثقافية والإبداعية، أو بلوغه درجة أعلى مما يستحق؛ لمجرد شهرة صاحبه في مجال أو مجالات أخرى قريبة أو بعيدة عنه.. ومنصبٌّ على العكس أيضًا بطبيعة الحال؛ أي على تعثر وفشل ما يستحق النجاح من الأعمال والمنجزات الفرديّة، أو وقوفه عند درجات منخفضة في سلالم التفوق والاحتفاء والاهتمام وتسليط الأضواء، رغم جدارته بدرجاتها العالية.

إذن، ومن خلال ما سبق أقول: إذا استطاع الإنسان -وخاصة إذا بدأ مبكرًا في مرحلة الشباب- أن يجعل نفسه (ماركة بشرية) ولو من خلال مجال واحد يبرز فيه ويهتم به، لإدراكه أنه من أفضل المجالات المحببة إلى قلبه، وأنه يستطيع تحقيق ذاته بامتياز من خلاله؛ لقدرته على إجادة اللعب في ساحاته بمهارة والركض في ميادينه باقتدار.. إذا استطاع ذلك سيستطيع -بعد أن يصبح «ماركة مسجلّة» في ذلك المجال- الخوض في المجالات الأخرى المناسبة له والقريبة من مجاله. بل سيستطيع أيضًا الخوض في المجالات البعيدة عنه، أو التي لا تمّت بأي صلة لاهتمامه الأصلي الذي عرفه الناس من خلاله.. سيرتقي في سماوات المكاسب والإنجازات بلا حدود، وسيستمر تسليط الأضواء على كل ما يقوله أو يفعله طيلة حياته، سواء ما يستحق أو ما لا يستحق من تلك الأقوال والأفعال، لا سيما في مجتمعاتنا الخليجية التي يختلط فيها الحابل بالنابل، لافتقارها إلى كثير من معايير وضوابط وقوانين ومناهج ومقاييس التفاضل والتنافس والتميّز والتخصص والجودة...

فكيف يصبح اسم المبدع الموهوب الطموح ماركة بشرية لامعة قادرة على فعل الأفاعيل؟!

سأجيب عن هذا السؤال من خلال رؤيتي الخاصة في الجزء الثاني من هذه المقالة بمشيئة المولى.

وائل القاسم - الرياض