ما بعد الحداثة في رواية«كافكا على الشاطئ»

بعيد جداً هناك في بلد ما وراء الشمس يكتب كاتب العزلة كما يحب عشاقه أن يسمّوه، صنّفته مجلة الغارديان على أنه أحد أبرز الروائيين على قيد الحياة في العالم. روايات تأخذك فعلاً إلى ما وراء العقل والخيال، هل تتخيّل أن تتحدث إلى قطّة؟ هل تتخيّل أن تعبر جسدياً إلى العالم الآخر؟

عندما تشاهد لوحة تجريدية لرسّام استطاع أن يأسرك بألوانها وتدرجاتها وعمق أسرارها، ستفكر كثيراً بعبقرية هذا الرسام واستطاعته أن يرى بعينه مجالاً آخر لا تستطيع كشخص عادي أن تدركه.

عندما قرأت رائعة هاروكي موركامي (كافكا على الشاطئ) توقعت قدراً من الخيال والفانتازيا بطبيعة الأمر، لكن ما لم أتوقعه هذا القدر الهائل من الخيال، نعم.. نعم هذا ما أدركته للخيال حدّ أيضاً، يختلف من شخص لآخر.

وهذا هو الفاصل لي كقارئ بين كاتب وآخر، وهو ما أدركته مع هاروكي الخيال لا حدود له في كتبه.

ستصاب عندما تقرأ مرّة واحدة لهاروكي بمتلازمة الشغف تجعلك تبحث عن كتاباته وتتبنى رؤيته العميقة للحياة. فهو كاتب التفاصيل الصغيرة يجعلك تشعر بالدهشة نحوها وكأنها حدث استثنائي، تبتدئ رواية (كافكا على الشاطئ) بالحديث عن الفتى كافكا في فصل.. والعجوز ناكاتا في فصل آخر، لا علاقه بينهما سوى أن القدر سيجمعهما ضمن أحداث غريبة دون لقاء فعلي حقيقي داخل الرواية لكن بمنحيين مختلفين سيخدمان رؤية الكاتب هاروكي.

«كافكا تامورا» قرر أن يشاور غرابه ويهجر بيته ويفارق والده في عيد ميلاده الخامس عشر، فيغير اسمه وينتقل إلى بلدة جديدة هي تاكاماتسو لا يعرف فيها أحداً، ولا يعرفه أحد، ويعتمد على نفسه وينتقل إلى عدة أماكن إلى أن يستقر به الوضع في مكتبة أهلية صغيرة يعمل بها فراشاً ومعاوناً وقارئاً أيضاً ولأنه يعشق القراءة في هذه السن الصغيرة ويواظب على الرياضة، فقد استطاع أن يتواءم مع الحياة الجديدة، ويصادق أمين المكتبة (أوشيما) الذي كان يظن أنه شاب، ولكنه يكتشف فيما بعد من خلال أحد المواقف أنه يقع بين الذكر والأنثى ولا يغير هذا من طبيعة صداقتهما.

العجوز ناكاتا ذو الذكاء المحدود الذي يعيش على معونة المحافظ، الذي يصف نفسه بأن والدته ووالده ماتا وهما حزينان جداً لأن ابنهما أصبح غبياً ولم ينجح في حياته العلمية والاجتماعية، والذي يتحدث مع القطط ويفهم لغتها وإشاراتها، فتكلفه إحدى العائلات بالبحث عن قطتها التي تغيبت عن البيت، فتبدأ رحلة البحث والحديث مع القطط التي شاهدت، أو لم تشاهد، القطة التائهة، لنعرف من خلال ذلك منطق القطط التي تعتقد أنها تعرف كل شيء في العالم. يأمر النحات والد كافكا (ناكاتا) بأن يقتله ليخلص العالم من شروره، كان الأب النحّات يصطاد القطط ويقتلها ويحتفظ برؤوسها في ثلاجة كبيرة، ليأخذ أرواحها بغية صناعة أطول ناي في العالم وأمام توسلات النحّات الغريبة يقوم ناكاتا بقتله.

شخصية أخرى تستوقفك أثناء قراءات العمل هو السائق (هوشينو) الذي يصادف العجوز ناكاتا عرض هوشينو على العجوز ناكاتا أن يوصله إلى المكان الذي يريده بعد أن أخبره العجوز أنه لا يعلم تماماً إلى أين هو ذاهب، ليستفز بسؤاله رغبة الشاب هوشينو لمعرفة الغموض الذي يحيط بالعجوز، ويتأثر هوشينو بالعجوز ناكاتا الذي يبدو أنه دائماً على حق، ليكتشف السائق هوشينو أثناء مرافقته للعجوز ناكاتا أنه أكثر من مجرّد سائق ليكتشف ولعه بالموسيقى الكلاسيكية من خلال معزوفة (ثلاثية الارشدوق) لبيتهوفن.

الرواية ليست أبداً من الروايات التي تستطيع أن تقدّم للقارئ قراءه واضحة لها، لأنها تُعتبر عبثية سريالية لكن في نفس الوقت غارقة جداً في الواقعية، الرواية غائب عنها العقل والمنطق.. نعم.. لكنه غياب رائع ويبدو منطقياً في تجسيد العلاقة العاطفية بين الفتى كافكا ذي الخمسة عشر عاماً بالآنسة سايكي مديرة المكتبة ذات الخمسين عاماً قد تكون غريبة وغير مقبولة، لكن تتكشف للقارئ أن الفتى كافكا عشق روح الآنسة سايكي ذات الخمسة عشر عاماً من خلال صورة في غرفته حيث يقيم داخل المكتبة حيث تناوبت في البداية زيارة روح الفتاه الصغيرة سايكي له قبل أن ترتبط روحها بروح الآنسة سايكي ذات الخمسين عاماً لتنشأ علاقة فعلية بين الشاب كافكا والمديرة سايكي لتبدو منطقية جداً للقارئ حينها.

الرواية التي أتت في 621 ورقة من الحجم الكبير بترجمة إيمان رزق الله ستأخذك إلى عوالم المستقبل طائراً كريشة بمفردات بسيطة وسهلة، استطاع الكاتب أن يأخذ القارئ إلى المكان المنشود إلى مكان السؤال تحديداً الذي يدور في فكر الكاتب بدون أن يسأله أسئلة كبرى حول الجدوى من كل ما يحدث لنا، وأن الأقدار مكتوبة مسبقاً، يجعل القارئ يستنتج الإيمان بدون ذكره بأي طريقة في الرواية، وتضمنت الكثير من المعلومات التي أدرجت في التفاصيل الصغيرة كأسماء الشخصيات اليابانية الجميلة المجسدة في شخوص أبطال العمل الروائي هو شينو والآنسة سايكي وأوشيما، وأكلات يابانية مفضلة لكل شخصية في الرواية، فالعجوز ناكاتا يعشق طبق الحنكليسس والفتى كافكا يحب طبق الاودن والقهوة ويحب القراءة، وهوشينو السائق يعشق موسيقى بيتهوفن والآنسة سايكي تحب الكتابة.

الشخصيات ناضجة جداً وعميقة ومثقفة جداً وعلى وعي كبير وذلك يخدم القارئ جداً ومنح العمل الأدبي ثقلاً كبيراً، لكن يبقى في الرواية الكثير من الأسرار التي تركها هاروكي لخيال القارئ فهو لا يقدم لك أجوبة، لكن يجعلك تستنج السؤال وتفكر بالإجابة، كسر سقوط القذائف في الغابة مجهولة المصدر استنتجت أن العمل موجّه ليابان ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإغماء الطلاّب السري الذي تكتمت عليه الحكومة بدون تقديم إجابات واضحة، الغيبوبات التي يصاب بها ناكاتا، حجر المدخل، الغراب المدعو (كرو) والجنرال ساندرس أو الرجل صاحب مطاعم كنتاكي، الآنسة سايكي ولوحة كافكا على الشاطئ وحرق العجوز ناكاتا لرسائلها.

ببساطه هذه الرواية كتبت لا لتفهمها ولكن لتشعر بها، إنها لأصحاب الذوق الرفيع!