لوعة الغياب من جديد
مرّ إذن عقد من الزمن منذ غيابك. عشر سنوات مضت، عقد من السنوات العجاف. لكنك لم تغب تماماً إذ تركت لنا زاداً. فكتاباتك ستبقى بين أيدينا، بل بين أيدي الأجيال القادمة. لقد كتبت نعياً فيمن سبقوك في الرحيل من النوابغ والقريبين إلى قلبك من الأصدقاء في «لوعة الغياب». فهل يكفي ما كتب فيك حتى الآن؟
هل نغبطك لأنك رحلت قبل أن تحلّ هذه الأيام الكالحة التي تكثفت فيها كل هذه الأوجاع؟ لطالما حزنت لأحوالنا منذ أن وعيت على هذه الدنيا. لست أنساك وأنت ما تزال تلميذاً في المدرسة الابتدائية، حين كنت تعود إلى البيت لاهثاً يتصبب عرقك بعد أن كنت تجوب شوارع وأزقة مدينة عمّان وتعدو مع أقرانك صارخين في أصحاب الحوانيت لكي يشاركوكم غضبكم هاتفين: «سكِّر يا قليل الدين راحت منك فلسطين»، وكأنهم هم المسؤولون عن ضياع تلك الديار المقدسة. هل كانوا حقاً مسؤولين عن ضياعها؟
وما أن شببت عن الطوق حتى أخذ يمضّك هذا السؤال: هل هم المسؤولون عن تلك النكبة؟ كانت تلك هي بداية بحث حقيقي ينير أمامنا الطريق للخروج من ذلك النفق المظلم. ولكن عبثاً، إلى أن وصلت إلى العالم الذي وجدت فيه ما يمكنك من البحث عن السبيل، وإن كان هذا هو عالم الخيال، إلى «عالم الرواية». حاولت أن تبتدع شخصيات تستطيع من خلال تحريكها أن تعينك وتعيننا معك لرؤية الضوء في نهاية هذا النفق. رأيت إذن أن هؤلاء هم الذين سيمكنونك من التواصل الصادق مع الناس، بل وحتى مع الأجيال القادمة.
بدأت رحلتك في نفس المكان الذي ضمّ ترابك في نهاية المطاف. فقد حملت بك أمك في دمشق، إذ هناك تزوجت من والدك الذي كان قد استوطنها. فقد وصل إلى بلاد الشام وهو لا يزال فتىً يافعاً مع إحدى قوافل «العقيلات» من قلب نجد، من «قصيباء» ضيعة أبيه، بل وبعدها من «عيون الجواء» التي كانت أمه قد انتقلت به إليها حيث يقيم أهلها بعد وفاة والده «علي المنيف».
أما أمنا فقد ولدت هي الأخرى من أبٍ نجدي من «العيون» هو «سليمان الجمعان» الذي رحل بدوره مع إحدى قوافل «العقيلات» إلى العراق. وبعد أن استقربه المقام لبعض الوقت في بغداد تزوج هناك وأنجب ولداً هو «محمد الجمعان» وبنتين هما خالتنا «منيرة» وأمنا «نورة» التي ما لبثت أن حطّت في دمشق لتتزوج من والدنا «إبراهيم المنيف» بعد وفاة زوجته الأولى التي كان قد أنجب منها إخوتنا وأخواتنا الأكبر سناً، كما كان قد رزق بأخينا الأكبر عبد الله من زوجة دمشقية إضافة إلى ابنة من زوجة دمشقية أخرى.
لكن الحنين ما لبث أن أخذ بوالدنا للعودة إلى الوطن، لذلك كلّف من ائتمنه على شراء دارٍ له في «المدينة المنورة» حيث قرر أن يجاور قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. توجه من دمشق إلى عمان أولاً كمحطة في الطريق. ولكن مقامه ما لبث أن طال فيها خصوصاً أنه كان قد بدأ تجارة فيها بإدارة خالنا «محمد الجمعان».
هناك إذن ولد عبد الرحمن وأختاه الأصغر «خديجة» و»حصة». لكن ما لبث أن ألم المرض بالوالد وهو لا يزال في عمان حيث توفي ودفن هناك.
حبوت ومشيت إذن خطواتك المتعثرة الأولى في عمان إلى أن اشتد عودك، وكان لا بدّ لك أن تبدأ مشوارك في الحياة هناك. وبعد أن صدمت أمنا بوفاة أبينا بعد سنوات محدودة من زواجهما قررت أن الطريق الوحيد الذي يمكّنك وأختيك من ضمان مستقبلكم هو التعليم. أرادت أن تستدرك فيكم ما فاتها هي في تلك الدرب التي حرمتها منها التقاليد البالية في طفولتها. كان يحزّ في نفسها أنها لا تستطيع كتابة كلمة واحدة سوى اسمها «نورة» الذي كانت تستمتع بكتابته، ولو بخط متعرّج.
أخذتك أولاً إلى كتّاب «الشيخ حافظ» لكنك سرعان ما ضقت ذرعاً بتكبيلك أمام شيخ الكتّاب بعصاه التي تمتد من بعيد لتنال من أي صغير يبدي نوعا من التمرد مهما كان هذا التمرد طفيفاً. وتكرّر ذلك حين انتقلت إلى المدرسة الابتدائية. كيف لك أن تجلس وكأنك الأسير في غرفة الصف وتبتعد عن رفاق الحي الذي شهد أولى شقاواتك؟ ففي ذلك الزقاق الذي لم يكن قد رصف بعد كنت تشارك أطفال الحي ألعابهم المبتدعة التي ما أن يملّوا نمطا منها حتى يبتدعوا نمطاً آخر، يتلوه آخر ثم آخر.
لذا تعثرت دراسته في البداية لأن ما يتلقاه من معلومات كانت أدنى مما يدور في عقله كطفل. لكنه ما لبث أن استدرك ما فاته حين وصل إلى المرحلة الثانوية بحيث تقدم لامتحان الشهادة النهائية قبل عام كامل من الوقت الذي كان يفترض فيه أن يتقدم لهذا الامتحان، بل وتحصّل على معدّل مكّنه من الذهاب إلى بغداد للالتحاق بالجامعة، ومن ثمَّ تابع تحصيله في القاهرة وفي بلغراد بيوغسلافيا حيث تحصّل على شهادة «الدكتوراة» في اقتصاديات النفط.
لكن ما الذي فتح عينيه على عالم القصّ؟ ربما كان هو زادنا الرئيسي في فترة الطفولة حيث كانت جدّتنا ثم أمنّا ترويان على مسامعنا تلك القصص اللذيذة فيجنح بنا الخيال إلى آفاق وعوالم أبعد. كانت قصصاً طويلة أحياناً بحيث تروى على مسامعنا في حلقات أتمنى لو أنني أتذكر تفاصيلها الآن. قصص طويلة وأخرى قصيرة، ونحن نتحلّق في ليالي الشتاء الباردة حول «منقل الفحم» الذي يضيء وجوهنا بجمراته المحمرّة اللذيذة التي يقال إنها «فاكهة الشتاء»، أو في ليالي الصيف حيث نتابعها بكل شوق ونحن نتمدد في فراشنا في تلك الفسحه السماوية الصغيرة حيث تظللنا سماء مليئة بالنجوم. فلم تكن الكهرباء قد وصلت إلى حيّنا حينذاك بحيث تحجب عنا تلك اللآلئ التي قلما يلحظها أطفالنا الآن.
قصة «مريم الزناريّة» وأخرى هي قصة «الملك الأعمى» التي تكشّف لي حين درست مادة «المسرحية» في الجامعة بأنها إنما تعود في أصولها إلى مسرحية «أوديب ملكاً» في التراث المسرحي اليوناني. هل إلى هذه الأعماق السحيقة تعود تلك الوشائج التي تربط بين مختلف الشعوب؟
أم هي مغامرات ذلك الفتى الصغير مع أبناء الحي التي أخذت تتسع ميادينها كلما شب عن الطوق التي تحدث عنها في روايته «سيرة مدينة»؟
أم هي عمله في العطلة الصيفية في تلك المكتبة الصغيرة التي يملكها أحد أبناء الجوار؟ ففي مكتبة «الشباب» ربما كانت بداية تلامس عبد الرحمن مع عالم الكتاب.
أم هي الكتب التي دأب أخونا «عليّ» على قراءتها في تلك الأيام؟ ما زلت أذكر من بينها كتاب «النبي» لجبران خليل جبران برسومه التي أتخيلها الآن أمام عيني، وكتب المنفلوطي: «النظرات» و»العبرات» و»ماجدولين» التي كانت رائجة في ذلك الحين. كان أخي علي يقرأ هذه الكتب وغيرها في حين كان الآخرون، إن قرأوا، فهم يقرؤون سلسلة «روايات الجيب»، وهي سلسلة من القصص البوليسية التي راجت في ذلك الحين.
ربما كل هذه الأمور مجتمعة وغيرها وغيرها. أما أولى محاولاته في الكتابه فقد بدأت منذ المرحلة الثانوية. أخذ يتحاور أولاً مع الشعر فيحفظ ما يتسنى له من القصيد العربي. وما لبث أن أخذ يضع قوائم بكلمات يفكر باستعمالها كقوافٍ لأبياته. لكنه ما لبث أن ارتدّ عن هذا السبيل وأخذ يكتب ما يمكن تسميته بلمحات تتناول حياة «العشاق» في تاريخنا مثل «جميل بثينة»، و»كثيرّ عزة»، أو أقصوصات راهنة أخذ ينشرها في مجلة «المنهل» التي كان يصدرها طلاب «ثانوية الحسين» على الرغم من أنه من طلبة «الكلية الإسلامية».
عالم الرواية إذن هو ما شدّك في النهاية بعد أن اتسعت آفاقك وتجربتك وطفت في الأنحاء العربية من البحر إلى البحر، بل وفي أرجاء واسعة من العالم أيضاً حيث تعرفت على أعداد كبيرة من الأصدقاء والصحب الذين بقيت تعتز بصداقتهم حتى نهاية العمر. وما كان يدهشنا حرصك اللافت على التحدث إلى كل من تلتقيه مهما قلَ أو علا شأنه، من البستاني إلى العامل مستفسراً عن دقائق مهنته ، أو المثقف والعالم. كنا نحدس حينذاك بأننا سنقابل هذا أو ذاك منهم من جديد كشخصية ستتألق في رواية قادمة.
لعلّك وجدت في عالم الرواية إذن ما يمكنه أن ينير الطريق أمامك ، بل وأمام قرائك. فلم تكن من الأنانية بحيث تحتكر هذا الطريق وذلك الضوء لنفسك، وحسناً فعلت.
هذا بعض ما يمكن لي قوله في هذه الأيام التي نشعر بأننا نحتاج فيها لفكرك أكثر من أي وقت مضى. فهل نجد من بعد من يجدر به أن يحمل الراية ويمضي بنا في الطريق التي يجدر بنا أن نمضي فيها وتسمو على تلك التي ما نزال نسلكها حتى الآن؟
إن هي إلا كلمات قليلة تراءى لي أن أكتبها كمقدمة لهذا الكتاب الذي تكرم الأخ محمد القشعمي، الصديق الصدوق لعبد الرحمن بنشره في الذكرى العاشرة لغيابه عن عالمنا.
** ** **
مقدمة تضمنها كتاب الأستاذ محمد القشعمي عن الراحل عبدالرحمن منيف في طبعته الجديدة.