في ذلك التوقيت تماما ؛ عندما يخرج (باودلينو) من المقبرة الرومانية يلتقي للتو بالنبيل والمؤرخ القسطنطيني (نيستانس) هاربا من الخراب الذي أحدثه الحجاج اللاتينيون في القسطنطينية (وهو اللقاء الذي يبدأ فيه باودلينو في التو بسرد حكايته عقب انتهاء أحداثها الرهيبة مباشرة على « نيستانس « ، الذي يعرف أنه مؤرخ ونبيل قسطنطيني من لقاء قديم عرفه فيه في القسطنطينية عرضا قبل ذلك بسنوات «، وهو أيضا ً اللقاء الذي افتتح به أمبرتو إيكو المتن الحقيقي للرواية). فيقوم (باودلينو) بحماية (نيستانس) ويمنع عنه سطوة الحجاج اللاتينيين بما له من نفوذ عليهم. ويظل معه في المخبأ، حيث يسرد عليه الأحداث الطازجة بقدرة مذهلة على تصوير الكلام حتى تهدأ الحرب، ثم يوصل (باودلينو) (نيستانس) إلى مأمنه في مدينة (سلمبرية).
هكذا يحكي (باودلينو) حكايته للمؤرخ والنبيل القسطنطيني (نيستانس) حتى نهايتها. وحين يصلان إلى (سلمبرية) يستدعي نيستانس صديقا له أعمى خبير في علم الحيل يدعى (بافنوزيو الحكيم) ؛ عندها تقع الصاعقة على (باودلينو) حينما يؤكد له (بافنوزيو الحكيم) بحجج عقلية دامغة من واقع خبرته العميقة بعلم الحيل ومعرفته الدقيقة بمنزل أرظروني وآلاته الشيطانية ـ أثناء مروره للحج إلى بيت المقدس ـ أن الإمبراطور (فر يدريك) لم يمت مقتولا في تلك الغرفة، ولا ضحية لمؤامرة، بل لم يمت في تلك الليلة، لأنه كان في غيبوبة أصابته من الهواء الفاسد المتولد من الفراغ في تلك الغرفة ؛ وإنما مات غرقا في النهر عندما ألقوا به في الماء ظنا بموته قبل ذلك خوفا من اتهامهم بقتله من قبل القافلة التي كانت في صحبته!؟
عندها يتكشف لـ(باودلينو) فظاعة الأثر المدمر لتلك الهواية ؛ هواية اختلاق الأكاذيب واختراع الحيل وتصديقها، والتي أدت في النهاية إلى قتل الإمبراطور (أبوه بالتبني) وضياع سنوات طويلة من عمره في البحث عن الأساطير فيقرر (باودلينو) التكفير عن آثامه بالتنسك على رأس عمود حجري في (سلمبرية) شهورا، ليكتشف الحكمة والزهد فيصبح قديسا ً يأكل بقايا الطعام مع الحيوانات والسوائم، ويقصده الناس لأخذ الحكمة والنصح.
ولكن فجأة تنبعث عادته المزمنة في تأويل الكلام بالأكاذيب فيخبر الناس بخلاف الواقع فيرجمه أهل البلدة بالتواطؤ مع راهبها، فيضطر (باودلينو) للجوء إلى نيستانس ويتزود منه ليستأنف الرحلة مرة أخرى بحثا ً عن مملكة الراهب جان وعن (هيباسي) وجنينه الضائع في بطنها.
وفي نهاية الرواية تتوازى تحولات المصير الدائري في النص ؛ فترجع (الغردال) إلى صاحبها (العجوز غاليادو)، ويعود (باودلينو) للبحث مرة أخرى عن مملكة الراهب (جان) في الشرق البعيد . بينما ينفتح التأويل في هذا النص المركب على وعي محايث للأعمال الإنسانية الكبرى في تاريخ الأدب العالمي، بما ينطوي عليه من دلالات ظاهرة وخفية .
فنحن في هذا النص أمام إحالات عميقة للماضي والحاضر من حيث كونهما فضائين للمعرفة الناقصة ؛ تلك التي تحايث الإنسان إزاء أسئلة الوجود والعدم. والشرق والغرب وعلاقتهما الملتبسة بالصراع المتجدد. كما تحيل الإشارة إلى (الهنس الأبيض) على الغرب والحالة الاستعمارية للشرق بدلالة مواربة، بالرغم من أن قناع الشرق هنا قناع نصف مثيلوجي.
وبينما توحي مملكة الراهب (جان) إلى الشرق المغمور بالحكمة والسعادة، يتكشف تأويلها الحقيقي والوهمي في الوقت نفسه عن شرق مظلم ومتخلف حيث لاوجود لمملكة الراهب جان إلا في تلك المخطوطة الأسطورية، كما ترد في النص دلالات على الحداثة المعطوبة والناقصة في وعي الشرق كتأويل بعيد لعلاقة (باودلينو) و(هيباسي) وجنينه الضائع في رحمها. بالإضافة إلى الإشارات الفلسفية فيما خص الموت والحياة، والوجود والعدم .
إن (أمبرتو إيكو) لم يكتب مجازا ً منزوع الدلالة خارج التأويلات الدينية للقرون الوسطى فحسب، بل جسد تأويلا ً خفيا لإرهاصات عصر النهضة في أوربا، عبر اسقاط النزعة الإنسانوية لـ(باودلينو) الذي كان يمقت الدماء ومحبا ً للسلام أيضا، وذلك عندما وظف (باودلينو) بعض الخدع لحقن الدماء، كتلك التي أقنع بها الملك (فريدريك) لفك حصاره عن أهل بلدته (فراسكيتا)، حين أوعز إليهم (باودلينو) ، أثناء مفاوضاته معهم كمبعوث من طرف الإمبراطور (فريدريك) ، بملء أحشاء بقرة أبيه (غاليادو) العجفاء وإطلاقها في معسكر الملك فر يدريك، الذي أنهكه الجوع، فظن الملك أن أهل البلدة لديهم ما يكفيهم طويلا من الطعام لمقاومة حصاره ففك حصاره عنها.
كذلك يحضر الفضاء المتوسطي للأديان التوحيدية في الرواية. وربما كانت إشارة (إيكو) إلى (عبدول) هنا إيحاء ً خفيا ً لحضور إسلامي، إذ إن (عب دول) بالإضافة إلى اسمه الموحي وسحنته الخلاسية فهو أيضا ً يجيد العربية. أي أن (إيكو) برع في تجاوز الالتباس الذي يحيل عليه المعنى الإسلامي المباشر، لاستحالة وجود شخصية مسلمة بذلك التوظيف في ذلك العصر في أوربا، دون أن يعني ذلك استحالة حضور تلك الشخصية في النص. كما تحضر الأطباق المتوسطية في موائد (نيستانس) التي يقدمها لـ(باودلينو) كذائقة متوسطية مرموقة لطبقة النبلاء الرومان في ذلك العصر.
التأويل الجمالي للرواية يخضع لخيال مسحور بأيقونات المسيحية في أوربا ووصف الكنائس والأديرة، والذخائر، والقبور الرومانية. لكن حيوية الخيال لا تتدفق على الوصف فحسب، بل تغمر وجوه الموتى بأسئلة وجودية عن معنى الفناء الذي يطفو على وجوه القديسين، وتحتفل بالتأمل في ذلك الولع اللاتيني بالهياكل والذخائر والتماثيل والحقد المذهبي ً.
وفي لفتة بارعة يفصح (إيكو) في نهاية النص عن معنى السرد الروائي من خلال إشاراته التأويلية إلى نفسه في كتابته لهذا النص ؛ إذ إن النص أصلا لعب على الخيال بأكاذيب غير متناهية، كما لو كانت كتابته توازي رحلة البحث عن مجاز الحقيقة في مملكة الراهب (جان) في الشرق البعيد حيث تشرق الأنوار والحكمة.
وحين يتحسر المؤرخ الورع (نيستانس) عن تدوين أكاذيب (باودلينو)، برغم سردها الممتع والجميل، يقول في آخر صفحة من الرواية : (إنها كانت حكاية جميلة وأنه من المؤسف حقا ً أن لا يعلم بها أحد ٌ ذات يوم). فيجيبه بافنوزيو الحكيم قائلا : (فمن يدري لو فعلت، كم من المعتوهين سيجوبون الأرض بحثا ً عنها دهور ودهور) ثم يقول بافنوزيو الحكيم لنيستانس، مستدركاً : (لا تحسبن أنك مـّدون الأخبار الوحيد في الكون، فعاجلا أو آجلا ً سوف يأتي من هو أكذب من باودلينو ويرويها) .
هل كان إيكو يعني نفسه بهذه الفقرة الأخيرة من الرواية ؟ ... ربما .
هكذا بدت رواية (باودلينو) عبر ترجمة ممتعة لـ (نجلا حمود)، و الشاعر (بسام حجّار) تأويلا عميقا ً لترهات القرون الوسطى، وهاجسا ً جماليا ً بأصول المعرفة البشرية عبر خيال بدائي ينعي فيه (إيكو) العجز الإنساني المتماثل في التاريخ والحاضر والمستقبل، عن إجابات فلسفية محايثة له، شكلت فيها الفنتازيا والأخيلة الأسطورية والافتتان العميق بجدل الأسئلة الدينية في العصور الوسطى ، والهوية الملتبسة للمسيحية في أوربا، قناعا ً لأسئلة الحاضر وأزمة المعرفة الدينية والفلسفية في الأزمنة الحديثة.
إن المعرفة الناقصة في الرواية وجدت تأويلها الأكزوتيكي في عوالم لامتناهية من أيدلوجيا الأساطير لتكشف عن تلك الدائرة المتجددة من المغامرات التي تسرق العمر في إثبات ما لا يمكن إثباته !
ربما أراد إيكو أن يلعب لعبته اللغوية - إذ إن في الرواية اشتقاقات ونحت للعديد من المصطلحات والأسماء المبتكرة - والسيميائية في تأويل المعرفة الدينية المسيحية وكشف أساطيرها بقناع هزلي ؛ لذلك جعل من بطل هذه الرواية (باودلينو) بطلا لا يكف عن تلوين الأكاذيب وتأويلها وتطبيقها في الوقت نفسه، كما لو كان يسابق ظله تحت شمس عمودية ! إن الكذب الذي يجد قناعاته في تأويل الأساطير، ليضمن بذلك أوضاعا إنسانية متواطئة باستعدادها الديني الهش، هو ما أراد (أمبرتو إيكو) أن يكشف حقيقته في العصور الوسطى كما في هذا العصر ولكن بتأويلات أخرى ... ربما.