بدأت المساومات منذ منتصف العام الماضي بشأن القضية السورية، التي لم تعد قضية وطنية ولا عربية ولا إقليمية؛ بل عالمية بامتياز. وحدثت التقلبات بين سقوط وشيك كان يمكن أن يحدث للنظام الحاكم في أجزاء من سوريا، قبل أن تنتشله القوى العالمية، وتدعمه بطريقة لا مثيل لها في تاريخ الديكتاتوريات المعروف في العصر الحديث.
بعد التشكيك في مكونات المعارضة ومدى صدقيتها ووجودها الفعلي على الأرض، وكذلك مدى وطنيتها وتمثيلها لأطياف الشعب السوري؛ تناوبت تلك القوى على أدوار مكشوفة، لم يكن أحد من أصحاب النزاهة يعتقد بأنها يمكن أن تحدث أمام الملأ، وبهذه الصفاقة والتواطؤ من جميع الأطياف. ثم صمت الأوربيون عن الكلام بشأن تلك المسرحيات الهزلية، بل وساير الفرنسيون على وجه الخصوص ذلك الاتجاه الممالئ للنظام وأعوانه. فبعد أن كانت باريس تعد لمرحلة ما بعد بشار، أصبحت تشكك في قدرة المقاومة على إسقاط النظام، وملء الفراغ السياسي في منطقة وسط المشرق العربي. لكن هل انتهت المهازل عند هذا الحد؟ لا، في الواقع لم يتوقف المسلسل إلا بزرع عدد من أطياف الإرهاب الفعلية في المسار الممتد من حدود كردستان إلى قرب الغوطة مروراً بوسط العراق. طبعاً لا أحد يستطيع الزعم بأن القوى العالمية هي من أتى بتلك الجماعات المجرمة، التي تجعل شبيحة بشار قليلي الخطر أمام فظاعاتهم؛ لكن تلكؤ الغرب – بالدرجة الأولى – في تسليح المقاومة المسلحة الوطنية في السنتين الأوليين من الثورة، جعل المنابت خصبة لتلك البيئة الإرهابية التي ترعرعت في مناطق مختلفة من العالم (بين أفغانستان والشيشان وبعض بلدان المغرب العربي واليمن وغيرها). وهي بالطبع فرصة كبيرة لتلك المنظمات لكي تقترب من أوربا والعالم المتقدم أكثر؛ فهل كان الغربيون واعين لمثل تلك المخاطر، أو متسامحين معها؟
وفي مرحلة لاحقة، وبعد أن اتضحت فظاعات هذه المنظمات وخطرها الكبير على المنطقة والعالم، لم يعد أحد يلوم المجتمع الدولي على تلك المواقف، وعلى مسايرة الروس والإيرانيين، بل وفي خضم تلك الأحداث وقعت مجموعة الستة الاتفاق النووي مع إيران، علامة رضا عن سلوكها القومي والإقليمي، بما في ذلك أدوارها في سوريا ولبنان. فكيف تحولت الأمور بهذه الدراماتيكية، خاصة مواقف فرنسا وتركيا، وإلى حد ما الولايات المتحدة الأمريكية؟
لكن العار على الإنسانية لم يبلغ مداه إلا بعد أن استخدم النظام سلاحه الكيميائي ضد الشعب، أو المناطق التي سيطرت عليها قوى المعارضة في العاصمة دمشق، وبعض المناطق المحورية. فبعد أن كانت تلك الأسلحة خطاً أحمر للأمم المتحدة والأمريكيين وكل منظمات حقوق الإنسان، أصبحت مجالاً للمناورة؛ تتبادل فيها الأدوار، إلى أن أنقذ الروس الأمريكيين من ورطتهم بالتهديد بالقوة، ليلقوا إليهم بحبل النجاة، من خلال مسرحية موافقة النظام السوري على تسليم أسلحته وإمكان تدمير الترسانة الكيمائية للنظام في الداخل أو الخارج. وهي المسرحية التي تبين ضعفها وهزالها، وربما لا تتم على الإطلاق، بعد أن ينساها الناس، وينشغلون بمناطق ملتهبة أخرى من العالم.
أخيراً تم الترتيب لأم المهازل المؤتمر الدولي في جنيف، الذي يعقد عليه النظام آمال انفراط عقد العزم الدولي على الاهتمام بسوريا وأزمتها. وتوالت تنازلات الرأي العام العالمي، ومعه قوى المعارضة السورية عن شرط إبعاد أركان النظام السوري، والاكتفاء بأن لا يكون هناك دور للرئيس بشار الأسد في سوريا المستقبل. فهل تلك المنظمات، التي تنقل من مكان إلى آخر، تماثل حمار جحا المحشوة مؤخرته بالدنانير الذهبية، أم هي مسماره الذي اشترط على المستأجر ملكيته، فأصبح مخولاً بتعهده؟