(هو أنا نفسي ولكن لا أحسّ.. ولا أنام)
حتى القهوة التي لا أنتظم في مواعيدها ولا في طريقة إعدادها لا تزال تعيدني، كلما استعددتُ لاستعادة كوب منها في غفلة من المواقيت والتقاويم وخريطة المسطحات الخاوية إلا من إضاءات تتقاطع على السقوف والزوايا المعتمة راسمة بعض وجوهٍ كنتُ أعرف ملامحها المتشكلة أبداً على طبقات الظلام الآخذ بي من دون التفاتة مني تنم عن إدراك، نحو حلم صغير كان يكبر كلما أكبر، ويتعب عندما أتعب، ويضجر مغلوباً مني حين يغلبني الضجر.. كأنه لم يكن كأحلام الناس الذين يتفرقون من حولي ويتجمعون هناك.. كأنه كان واقعاً لخارجٍ من حدوده الطبيعية، قسراً، ويحلم أن يعود في زمرة الناس..
(كل أحوالي تمام
هو أنا نفسي ولكن
لا أحسّ.. ولا أنام)
ولا يزال ديوان ابن الفارض قريباً من يدي، غير أن شطراً واحداً من أبيات تائيته الكبرى لم أحتفظ به في ذاكرتي، فلامية الشنفرى هي الذاكرة. وسيرة بن أعطى لم تكن أكثر من تقمُّصٍ لما كان. لا أحد يتقمَّص ما كان قد تمَّ إلاّ حين يفشل أن يكون تماماً؛ وتلك خيوطٌ حُرّةٌ حادةٌ تنسلُّ من أضواءٍ باهتة تتكسر على المرايا فتحاول عبثاً أن تعود إلى مصابيحها المبتذلة كلما تاهت بها الظلمات في مسارات من المنحنيات لم تكن مهيأة لها، هي كمثل الأبواب العائدة إلى أقفالها حين يهجرها الأهلُ ويتجاهلها العابرون وينسى طريقها الزوّار. حتى بيوت العنكبوت لم تعد تبنى على أبواب لا أقفال تستر عورات ما يتوارى خلفها من فراغ. فلا تحسبني أتسلى بالكلام حين كنتُ أنصتُ إلى غيري يقول..
(هو أنا نفسي ولكن
لا أحسّ.. ولا أنام)
فهل كلُّ أحوالي تمام؟ تعرفني، يا متمم أحوالي بالعدم، وتعرفُ كم شربتُ من هذا الكون حتى أكون في عداد الذين تتمُّ بأحوالهم الحياة، وتنتهي في كؤوسهم سكراتُ العطش. فلا تسخر من عدمي الواضح في حضرة وجودك المجهول، حتى لا تخسر ما تبقى من الغياب في زحمة الخطوات التي تقتربُ منك كلما نويتَ، مثلي، أن تختلف قليلاً مع نفسكَ وتبادر بالذهاب إلى حيثُ تحتفلُ الصدمةُ بالحطام..
إلى حيثُ تكونُ غيرَ نفسِكَ، لتحِسَّ.. وتنام.
** ** **
(*): العنوان وما بين الأقواس من أغنية شبابية حديثة، كلمات: ملامح.