لم تكن الإطلالة الصباحية لي كأي اطلالة عادية، ففنجان القهوة الذي امسك به يحوي قهوة عربية ممزوجة بالهال برائحة سعودية، وزخات المطر المتطايرة باريسية، ووجوه المارّة شرق آسيوية، كان المشهد مكتملاً جداً، كأنه قطعة من احدى روايات هاروكي موراكامي، لم يقطعه إلا أن شاهدت طابور يقف فيه عشرات الأشخاص يومياً يتكرر المشهد صباحاً ومساء في (شيزن) جنوب الصين مدينة ساحرة لها حميمية دولة عربية وحضارة غربية، وكسائحة جديدة تأكدت ان هذا الطابور ما هو إلا طابور الخبز المعتاد في كل دولة قمت بزيارتها، قررت صباح اليوم التالي أن أنزل أسفل العمارة لأتذوق هذا الخبز الرائع الذي رسمته أفكاري بناء على أعداد الناس المذهلة الواقفة ليل نهار، اضطررت للوقوف في الطابور لمدة ساعتين تماماً قبل أن أفاجأ بامرأة صينية تجلس داخل محل صغير، لا يبدوا أنه محل للخبز أبداً، بادرت المرأة بطلب يدي لتمسكها! هنا كانت الدهشة، ما الذي تريده المرأة العجوز بيدي؟!.
ليتضح لي فيما بعد أن هذه المرأة ليست سوى قارئة للطالع والمستقبل وأن أغلب الشعب الصيني يحب أن يبدأ يومه بتوقعات ما يحمله هذا اليوم من خير أو من شر, تحولت رحلت الاستجمام العائلية الصغيرة من رحلة تسوق إلى رحلة بحث وتقصّي، اتضح لي أن الشعب الشرق الآسيوي يقدّس الخرافة ويعتمد عليها في كل شئون حياته، فلكل شأن حياتي له طقس خرافي خاص به، تخضع الخرافة في الصين واليابان وتايلندا على معايير فما سيحدث لك يعتمد على عمرك وجنسك وكونك متزوج أم أعزب، لا مجال أبداً أن تسخر من الخرافة في الصين فهي بمثابة طقوس دينية يجب على كل سائح احترام هذا العرف الاجتماعي ويعتقد الصينين أن الخرافة والأساطير الصينية هي تاريخ الصين وهي ما أسس هذه الحضارة وشكّلت ماضيهم! هل هنالك شخص لم يسمع بالتنين الصيني؟ في كل عرض لدولة الصين يجسدّون التنين كرمز تاريخي أسطوري للخرافة، ترمز التنانين الصينية قديمًا إلى السلطان والقوة المبشّرة، وخصوصًا التحكم في المياه والأمطار والأعاصير والفيضانات.
ويرمز التنين أيضًا إلى السلطان والقوة والحظ الطيب.. واعتاد إمبراطور الصين استخدام التنين بهذا المعنى ليرمز إلى سلطاته الإمبراطورية وقوته البالغة, تتم مقارنة الأشخاص المتميزين والنابهين بالتنين، في حين يضاهون بين الأشخاص المفلسين بكائنات أخرى محتقرة منها الديدان.. وهناك عدد لا بأس به من الأمثال والكنايات تذكر التنين ومنها على سبيل المثال: «يتمنى أن يصبح ابنه تنينًا» لو كنت صينياً لفكرت ملياً قبل أن تختار رقماً، فالأرقام الفردية مشؤومة وترتبط بالموت الذي حسب المعتقد الصيني لاحياة بعد الموت فهو النهاية الأبدية, عليك عند صعود المصعد أن تختار رقماً زوجياً, وعند بنائك منزلاً أن يكون عدد سلالمه زوجياً ولمناسباتك السعيدة اختر تاريخاً زوجياً. مما يجلب سوء الحظ وجود حجرتين في المنزل باب كل منهما يواجه الآخر!.. ولا يبني الصيني بيته وبابه يواجه اتجاه الشمال بل عليه أن يجعله تجاه الجنوب أو الشرق أو الغرب! ومن يشارك في دفن ميت عليه تجنب العودة مباشرة إلى بيته خوفاً من أن يتبعه شبح الموت! وعند مرور جنازة يسارع الصيني إلى إخفاء إصبع الإبهام ومن يصفر ليلاً ستزوره أفعي أثناء نومه ومن يشير إلى القمر يعرض نفسه لسقوط أذنيه! ومن يزور امرأة أنجبت مولوداً عليه عدم امتداح المولود شكلاً أو موضوعاً لأن ذلك يجلب الأرواح والأشباح إلى بيت الأم!.
ولن يسعني حقاً هنا أن أدرج كل الخرافات العجيبة التي سيشيب لها رأس القارئ العزيز, لذلك لطالما تسألت هل الخرافة تصنع شعباً مطيعاً ومهذباً؟ .. هل انعكست ثقافة الأساطير والخرافات على تهذيب الشعب الصيني والشعوب الآسيوية الأخرى؟.. فكما هو معروف استخدمت الخرافة كوسيلة تهذيب وتخويف الأبناء في الماضي السحيق.
وبالرغم من ذلك التقدم الهائل والتنظيم المتقن لكل شئون حياة الفرد الشرق آسيوي إلا أن إيمانه بهذه الخرافات يشكل علامة تعجب كبيرة!؟.